كوسوفو .. الصرب والالبان "كش ملك"

 

العودة إلى صفحة الرسالة

"الاطلسي" خطة السلام تضعه وصياً على الاقليم لاجل غير مسمى وتسجل سابقة في السياسة الدولية بدون مرجعية مجلس الامن

عمر قاروط

هل تكون حرب كوسوفو آخر الحروب التي تقودها الولايات المتحدة الامريكية وحلف الاطلسي في العالم خلال هذا القرن ؟! وما هي الصيغة التي سيلجأ لها المجتمع الدولي في القرن القادم لمعالجة الازمات الدولية ؟ وهل سيتوقف العالم امام المعادلةالراهنة المسيطرة على العلاقات الدولية ؟!

هذه التساؤلات وغيرها يفرضها السيناريو الذي قررته الولايات المتحدة وحلفاؤها في دول حلف الاطلسي لوقف الحرب في كوسوفو . فرغم ان هناك طرفاً معتدٍ وآخر معتدىً عليه في الحرب ، وان طرفاً ثالثاً جاء منقذاً لكن مكونات هذا المشهد التراجيدي المؤثر لا تبدو انها تعكس الصورة النهائية لهذا المشهد . فوفقاً لهذه المكونات نكتشف ان دولاً متسلطة وحلفاً متغطرساً قررا ان يضعا من خلال هذا المشهد افق استراتيجيات دولية امنية للقرن المقبل تطلق العنان لها لاتخاذ اية اجراءات او قرارات يرونها منسجمة مع هذه الاستراتيجيات باعتبارها تحمي مصالحها وترضي تظرتها الاحتكارية للعالم . لذا فإنهما انطلاقاً من حالة الانقاذ التي تذرعا بها الى تهيئة الظروف والمستجدات التي توصلهما لاهدافهما الحيوية ليس في هذه الحرب تحديداً ولكن عبر سنوات القرن المقبل . وهو ما يعني ان الصرب والالبان سقطا في مستنقع هذه الاستراتيجيات وقدما كثيراً من حقوقهما الوطنية ومصالحهما الحيوية لصالح الولايات المتحدة الامريكية ودول حلف الاطلسي .

فبقراءة السيناريو الذي اعدته امريكا ودول الاطلسي لوقف الحرب نكتشف العديد من الحقائق بالغة الخطورة :

1- حرمان الالبان من حق المطالبة بالاستقلال او العمل على بناء المؤسسات المستقلة او ممارسة السيادة التي تعبر عن الاستقلال. فالاقليم وفق هذا السيناريو سيظل جزءاً من صربيا ، كما سيتم سحب السلام من عناصر جيش تحرير كوسوفو واعادة دمج عناصره في المجتمع المدني، وادارة الاقليم خلال المرحلة الانتقالية بمعرفة قيادة الاطلسي في الاقليم بينما تركت عشرات القضايا المهمة معلقة بدون قرارات او اجراءات محددة بما فيها عودة النازحين الذين اشار نص السيناريو لحقهم في العودة ولكن لم  يحدد كيف ستتم هذه العودة ومن سيمولها وكيف سيتم تأهيل عشرات بل مئات القرى والمدن وآلاف المساكن التي دمرت ، كما كيف سيتم تجديد مظاهر الحياة في الاقليم بعد ان دمر الصرب ومن بعد طائرات الاطلسي جميع المرافق العامة الخدمية والاقتصادية . وبمعنى آخر فإن الالبان خسروا الكثير في هذه الحرب ولن يحصلوا على الحد الادنى الذي كانوا يتمتعون به قبل اندلاع هذه الحرب . وهو ما يشير الى انهم وقعوا في شرك محكم من قبل دول الحلف ومستشاريه .

2- اخضاع صربيا بصورة كاملة لرؤية الحلف الاستراتيجية حيث ،وفقاً لهذا السيناريو، سيتم انهاء النظام السياسي القائم وتسليم رموزه القيادية لمحكمة العدل الدولية والمجيء بنظام سياسي جديد ديمقراطي منسجماً مع الديمقراطيات الغربية الاوروبية . وبمعنى آخر اعادة تأهيل صربيا ودمجها وادخالها في منظومة الامن الاوروبي المعاصرة .

3- تفكيك العلاقات الصربية الروسية التاريخية والسياسية والعسكرية بحيث يتم سلخ علاقة الترابط التي سيطرت على هذه العلاقات لعقود طويلة بما يسهل اعادة دمجها في اوروبا من جهة وبما يساعد على خلخلة تحالفات روسيا الخارجية والتقليدية التي تمثل صربيا اقوى نماذجها .

4- تنصيب حلف الاطلسي وصياً على كوسوفو ومن ثم صربيا عبر القيادة الخاصة بالاشراف على الامن في الاقليم وعودة اللاجئين والمرحلة الانتقالية التي تسمح باقامة  ادارة خاصة بالاقليم موالية للحلف من جهة وايضاً قيام سلطة صربية منسجمة مع الحلف وسياساته الاقليمية .

5- تقنين توجهات جديدة في السياسةالدولية تطلق يد دول حلف الاطلسي في ادارة الازمات الدولية دون الحاجة لمرجعية مجلس الامن والامم المتحدة وذلك للتخلص من مبدأ الفيتو وقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالعديد من القضايا الدولية . وتنم هذه السياسة عن موقف مسبق لدول الحلف من الامم المتحدة والزعامة الدولية المنفردة من قبل الولايات المتحدة للمجتمع الدولي .

6- تأكيد الهيمنة الامريكية على القضايا الدولية عبر القوة العسكرية المطلقة لها المتمثلة في الطيران والصواريخ والاسلحة الذكية وهو ما عرف باسم "استراتيجية حرب النجوم" التي بدأ العمل بها منذ قرابة عقدين من الزمان تقريباً حيث انه وفق هذه الاستراتيجية ستكون القدرة لدى الولايات المتحدة لضرب اي عدو دون وقوع اصابات تذكر في جنودها مع الحاق اصابات بالغة في العدو . وتقول مصادر مطلعة ان سلسلة الحروب الاخيرة التي بدأتها الولايات المتحدة خلال عقد التسعينات تدخل في اطار اختبار وتطبيق هذه الاستراتيجية بعد ان ثبت فشل استراتيجية قوات التدخل السريع "المارينز" في تحقيق الاغراض المرجوة عسكرياً بعد ان اصيبت هذه القوات بعدد من الانتكاسات في ادائها الميداني مما ألحق ضرراً بالغاً في سمعة وهيمنة الولايات المتحدة امام الرأي العام الامريكي والدولي . وهو ما اضر بالمصالح الامريكية في اكثر من موقع في العالم .

7- سعت الولايات المتحدة من خلال ازمة كوسوفو على تأكيد دورها في امن القارة الاوروبية وعمق الروابط الامريكية بهذا الامن وذلك عبر تأكيد قيادتها للقوات المشتركة لدول الحلف ومشاركتها بعدد من الطائرات والتمويل والجنود بما يفوق مشاركة دول الحلف مجتمعة بأكثر من الضعف وهو ما تسعى من خلاله الى تحجيم النزعات والدعوات الاوروبية الاستقلالية الداعية لاقامة ذراع عسكرية خاصة بالمجموعة الاوروبية بعيداً عن المشاركة الامريكية .

8- تهميش دور الدول الكبرى خاصة دائمة العضوية في مجلس الامن وتحديداً روسيا فالصين ففرنسا في السياسة الدولية واستيعابها ضمن المنظومة الامريكية للسياسة الدولية والتي تسعى لتسخير كافة الطاقات والدول لتأكيد زعامتها المطلقة على العالم لذا نجدها حتى الآن ترفض القبول بالرؤية الروسية لحل ازمة كوسوفو او الرجوع لمجلس الامن للحصول على موافقته في شأن الاجراءات الواجب اتباعها بشأن ازمة كوسوفو ، كما تتجاهل المطالب الصينية بوقف العمليات العسكرية اضافة لتجاهلها للنصائح والملاحظات الفرنسية بشأن ادارة الازمة في الاقليم .

9- تعمل الادارة الامريكية من خلال ادارتها لازمة كوسوفو على انهاء دول وانظمة وقيادات المنظومة الاشتراكية ومرحلة الحرب الباردة التي ترفض القبول بالدوران في منظومة النظام العالمي الجديد الذي تتزعمه امريكا باسم حقوق الانسان والشرعية الدولية والديمقراطية وتحت غطاء من قوتها العسكرية الفائقة خاصة "نظام حرب النجوم" ولذا فهي لم تكن معنية بحل ازمة كوسوفو بقدر تدمير النظام الحاكم في صربيا وانهاء مستقبل قيادته السياسية وكذلك الحال مع دول اخرى وهو ما يجعل المراقبين ينظرون بقلق بالغ لمستقبل الوضع في منطقة الخليج وكذلك في ليبيا والهند وباكستان وايران واندونيسيا وماليزيا ... الخ .

ضمن هذه الحقائق التي نقرأها من سيناريو الحرب في كوسوفو فإننا ننظر بتحفظ شديد وشك كبير ازاء مستقبل الوضع في الاقليم وحقيقة النوايا الامريكية والغربية في هذه المنطقة الحساسة في قلب القارة الاوروبية  . وهو ما يمكن ان نعبر عنه ما يعرف في لعبة الشطرنج بـ"كش ملك" طرفه الاول الصرب والالبان وطرفه الآخر امريكا ودول حلف الاطلسي .

لذا فإن الازمة الحالية التي تواجه المفاوضات المتعلقة بانهاء الصراع في الاقليم ليست ناتجة عن خلافات جوهرية حول معالجة المشكلات الخاصة بالازمة بقدر ما ان هذه الازمة ناتجة عن مواقف وسياسات مسبقة لحلف الاطلسي بقيادة الولايات المتحدة تريد ان تنهي ذاتية الدولة الصربية تماماً وتعيد تشكيلها من جديد بحيث تكون دولة قائمة في نظامها وقيادتها وسياساتها على غطاء من حلف الاطلسي هذا من جهة ، وفي الوقت نفسه تغييب اي دور او اهمية للامم المتحدة والدول الاخرى في الازمة حتى لا تعيق بلورة استراتيجية الحلف لامن القارة في القرن المقبل وصياغة النظام العالمي الجديد الذي تديره امريكا رغم كل المؤشرات التي تشير الى استحالة اقامة مثل هذا النظام بدون شراكة حقيقية لدول اخرى في العالم .

ووفقاً للتقارير الصحفية المتسربة من هنا وهناك وآراء المراقبين فنحن من كوسوفو نطل على عهد جديد في السياسة الدولية ربما لا زال من المبكر تحديد معالمه وآلياته لكن من المؤكد ان هذا العهد سيشهد فيه المجتمع الدولي اكثر من مواجهة حول البؤر الساخنة واختبارات للقوة والارادة في السياسات الدولية وهو ما يرجح امكانية قيام حروب اخرى جديدة وربما اعادة صياغة التحالفات الدولية وتقسيم مناطق النفوذ واعادة النظر في دور الامم المتحدة وانظمتها وربما هيكليتها التنظيمية والبيروقراطية .


آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة

 

 

 

تصميم وإشرافسامي يوسف نوفل