من شوارع الوطن

بقلم : صلاح البردويل

العودة إلى صفحة الرسالة

 

من قتل ذهبية؟

فيما عدا خروجها لاستلام التموين.. او خروجها في فترات متباعدة الى السوق فإن الحاجة ذهبية تقبع في بيتها تقاوم الصدأ وتحارب العفن الذي يحاصر دخانيش بيتها المشرف على مستنقع تشكل بفعل عوامل التصفية التي تتم في الزبالة المجاورة.

وبالرغم من ذلك فالكثيرون يعرفونها .. الحمّارون .. موظفو التموين جيلا بعد جيل.. اصحاب الدكاكين الذين يشترون التموين .. اطفال الحواري .. والقطط الضالة.. وحتى الفئران تعرف تفاصيل حياتها جيدا.

انها السيدة الاولى دائما كما كان يسميها كل المعنيين بشئون التموين ولم تحصل على هذه الرتبة من فراغ وانما بعرق الجبين وبما وهبها الله من صحة جعلتها دائما في اول الدور ، اما ما تقوله النسوان من انها مستقوية لان لها واسطة .. وان مسجل التموين هو صديق ابن اختها رسمية ، وان سوّاق الكارة الخصوصية التي تنقلها صديق لابنها عقلة السكران وغير هذه الاقوال فهي اقوال غير مؤكدة ، وتصفها ذهبية بأنها "قصر ذيل يا أزعر".

صحيح ان ابناء اختها رسمية -خمسة في عين الحسود- يعملون جميعا في الامن ، ولكن لا وقت لديهم للسؤال عنها ، وصحيح ان ابنها عقلة السكران فهلوي ويعرف الكثير من الناس الواصلة وغير الواصلة الا انه غضيب ومشغول على الدوام ، ولذلك فإنها تعتمد على الله اولا وعلى نفسها ثانيا كما تقول.

ذهبية عيبها الوحيد كثرة سماعها للراديو ، لدرجة انها شوهدت في طابور التموين اخيرا وهي تتعاطى السياسة الدولية وتسب على سوهارتو وتتحدث عن الانتخابات الاندونيسية !! اما عن مأساة اللاجئين في كوسوفا فلم تترك جانبا من جوانب المأساة الا وشرحته من خلال خبرتها التموينية الطويلة.

وقد تفاقمت حالة ذهبية النفسية اخيرا بعد شرائها جهاز تلفزيون ابيض واسود ، حيث صنع الجيران لها هوائيا من لجن العجين المخزوق الذي كانت تشحد الطحين فيه ، وقد اقنعتها جارتها ان هذه الطريقة هي افضل الوسائل لوضوح الصورة المسروقة من الفضائيات.

ذهبية التي ساهمت في الانتفاضة بدور كبير في تخبئة الشباب الشاردين من الجنود تحولت الى مناضلة لا تخشى الموت، واتسعت ثقافتها الوطنية الى حد لم تعد تفصل فيه بين المزاحمة من اجل الطحين والنضال من اجل طرد المستوطنين.

بالامس فقط اكتشف الجيران ان ذهبية ماتت عندما كسروا باب بيتها ليجدوها جثة هامدة  امام التلفزيون الذي تشوش ارساله حدادا على روحها كما يقول بعضهم ، البعض يقول انه تشوش لانها فقعته بالمكنسة ، والبعض يقول انها ماتت وهي تتابع يوم الغضب ، حيث غضبت حتى الموت ، والبعض يقول انها ماتت من شدة الفرح حينما سمعت الاغاني الوطنية في التلفزيون .. والمقربون يقولون ان من ركب لها التلفزيون سرق كل ما عندها ، ويقولون .. ويقولون .. ولكن تظل القصة بلا نهاية ولا بداية ولا حبكة طالما ان ذهبية لم تحدد موقفها في الحياة ، وستظل صورة ذهبية في ذهن اطفال الحارة مشوشة مثل خرابيش التلفزيون الذي انطفأ مع موتها.

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة

 

 

 

تصميم وإشرافسامي يوسف نوفل