من شوارع الوطن

بقلم : صلاح البردويل

العودة إلى صفحة الرسالة

 

خلدون في ظلال البروج

هل لو ما زال معين بسيسو حيا كان ينعى غزة بقوله

البحر يحكي للنجوم حكاية الوطن السجين

والليل كالشحاد يطرق بالدموع وبالانين

ابواب غزة وهي مقفلة على الشعب الحزين

هذي هي الحسناء غزة في مآتمها تدور

ما بين قتلى في السجون وبين قتلى في القبور!!

لا اعتقد انه يتسرع بهذه الكلمات الحزينة قبل ان يتمشى معي على قدميه بدون سيّارة مسروقة او منهوبة او ممنوحة او مباحة .. ويطوف ما بين سطور البروج والصالات والمقرّات والثكنات والقبور!! ويحاور معي خلدون الذي بالكاد استطعنا انا واخوه استخراجه حيا من بين ركام زبالات البروج.

خلدون لا يزيد في العمر عن عشر سنوات اما اخوه الذي خجل ان يذكر لي اسمه فيناهز السبع سنين ، وقد ازال لي الغموض في المسافة الزمنية التي تفصل بينهما حيث تقع على الخارطة اختهما التي تتوسطهما.. في وجه خلدون يمكن للمدقق ان يقرأ خارطة المخيم بكل خطوطها وغبارها والوانها .. وعلى جلد ظهره الذي تعرّى بعد تمزق قميصه من اثر انتشاله من الزبالة ترتسم خارطة الحزن الذي صوره الشعراء..

خارجاً لتوّه من بين عفونة الاكياس والاشياء التافهة خالي الوفاض .. لكن روحه المعنوية لم تزل قوية بدرجة لم تمنعه من السب والشتم على اهل المنطقة الذين لم يلقوا في الزبالة شيئا ذا بال يمكن الاستفادة منه او بيعه .. "اما زبالة اليهود!! يا عيني على الرابش يا عيني".. ما زال يتذكر زبالات مواقع الجيش .. قال الصغير ما معناه "هؤلاء يحبون ان يأكلوا ولا .... " يقلب علبة بلاستيكية فارغة محاولا ان يكتشف قيمتها .. قلت: الحمد لله على سلامتك يا خلدون .. المهم انك خرجت بالسلامة .. قال : عمر الشقي بقي.. انا لم اكن مختفيا .. كنت امثل على اخي.. قلت: لعبة حلوة والله!! .. تك ما على وجهك من معلقات .. لماذا لا تبحث انت واخوك عن لعبة غير هذه اللعبة يا بني؟! سكت ونظر اليّ من اعلى الى اسفل وهو متكيء على الزبالة البرتقالية .. قال: والله لا ادري ما اقول لك يا استاذ .. واشار برأسه لاخيه وهو يغادر .. قلت: لا تفهمني خطأ .. انتظر يا خلدون حتى نتفاهم .. انا لا اهزأ منكما!! قال: يا استاذ : ابونا لا يشتغل وامّنا مريضة بالربو .. يوم في المستشفى ويوم في الفراش... والمدارس .. وتنهد .. قلت : للمدارس؟ .. قال: لا شيء .. نحن لا نلعب .. او قل نحن نلعب لعبة الموت!! قال الصغير : يمكن نلاقي خاتم او سلسلة ذهب او .. يمكن .. ويصير معنا مصاري كثير .. ونشتري اواعي .. ونشتري لعب.. ونشتري دوا لأمي .. ونعطي الباقي لأبوي .. يمكن .. وكان يسبح في خيالاته منشرح الصدر مبتسم الثغر .. وتكاد قدماه الحافيتان تطيران.. قال خلدون : وقد لمعت عيونه آه .. يا ريت .. وكانت شمس العصر تختفي رويدا رويدا خلف البرج المقابل .. وقد شعرت انني تأخرت عن البيت ونسيت انني كنت اشير الى سيارات خان يونس .. ونظرت قبالتي فإذا بمطعم فاخر .. قلت : هل تأكلان؟ قال الصغير : نعم.. قال خلدون اذا اردت ان تطعمنا .. نحن نشتري وحدنا.. اعطيته ما بيدي وانتظرت لأراهما يأكلان... قال خلدون: شكرا، لا نأكل الشوربة سنشتري لنا ولأهلنا شيئا احسن.

وانطلق كل منا في طريقه وانا ما زلت اردد ابيات الشاعر معين بسيسو وادحرج كرة ممزقة كانت تحت قدمي كما يتدحرج التاريخ.

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة

 

 

 

تصميم وإشرافسامي يوسف نوفل