رسالة

الدكتور / عطاالله ابو السبح

العودة إلى صفحة الرسالة

الرسالة (61) ... الى الرسالة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،

في يومك اتقدم اليك بكل حب وتقدير تستحقين ، اذ لم يخطف بصرك ذهب المعز، ولم يثنك سيفه عن المضي على الخط المستقيم الذي اخترت السير عليه ، تتدفقين حيوية ، وفتوة ، وحرقة ، وانتماء .. حيوية لا تعرف الترهل ولا التردد او النكوص . وفتوة دافقة تأخذ الامر بقوة ، لا تعرف الوهن ولا العجز . قوة العدل ، لا قوة الغاشمين ، قوة شابة ارتوت من حكمة السماء وعبقريتها ، وتضلعت من عبر ذوي البصائر والبصر . وحرقة على الدم الراعف من شريان فلسطين والمتدفق من فؤاد الاقصى . الراعف من كرامة الانسان على هذه الارض المنكوبة .. المباركة ، الاسيرة ، مقطعة الاوصال ، الغارقة في الآلام والآمال ، المتشحة بالسواد ، على شهيد او اسير او هدف ، المسكونة باليأس والحبوط، الملطخة بالفساد ؛ نهباً ، وتهريباً ، وسكراً ، وتحشيشاً ، وسب الذات الإلهية ، وبخس الناس اشياءهم ، وشكوى القيد لطول ملازمته لمعاصم الحرية ، وانين الاغتراب الذي يجلجل في صدور المنزرعين كشجر الزيتون ، في كل قرية ، وكفر وبيت في جبل او ساحل ، حيث ينبت في قلوب ابناء هذا الوطن الانتماء .

ايتها الصديقة الغالية .. لا اظن ان صحيفة تحظى بربع ما تحظين من اهتمام لتميزك ، وتفردك ، وقفت بلا ترحاب للوجوه الحمراء القادمة من بلاد اللاعم سام ، التي اكتنزت بدمائنا ، الذي امتصته من شراييننا عبر سنين ، لم تحفلي بالشيطان الرجيم كلينتون ، بل سفهت احلامه، وهزأت من اكاذيبه ودجله ، ودققت ناقوس الخطر . واشعلت المصباح الاحمر ؛ لتحاربي ماخور الفجور في اريحا.

كم بكت عينك على جراحات الامة ، في بغداد ، وليبيا ، في الجزائر والسودان، في البوسنة والهرسك ، في كوسوفا والبلقان ، في قانان والعامرية . تشرفين بالدمع ، ويبرق من بين سطورك الامل ، تصفين الداء ، تحاربين الدجل والشعوذة والحواة .... ، اذا انكسر في يدك سيف، نبت في راحتك اكثر من سيف ، كزرع اخرج شطأه ، ترسمين ملامح الغد . وترين ما لا يراه الآخرون وما يرونه ، ولا تستأثرين به .

اقلب صفحاتك ، فتتمثل لي قمم جبال بلادي ، تعلوها باقات الياسمين ، والسوسن ، وشقائق النعمان ، يداعبها هواء مر لتوه على ميناء يافا وقلعة الجزار ، فحمل لها همزة وصل ابدية ، مع نسيم هادئ مكلوم ، يذكرها بجرائم يهود التي باركتها اتفاقيات الظلم والقهر ، التي اغرقت شمسنا في ليل حالك كثيف الغيوم ، اتفاقيات رودس والكامب اللعين ، ومدريد المؤامرة ، واوسلو الضياع ، وواي الوجع والغربة واليأس والقيد ، ووادي عربة القطيعة .. والبقية تأتي .

اقلب صفحاتك لاقرأ (رسالتنا) الصرخة المدوية من حنجرة خبير ، يضع اصبعه على موطن الداء الذي اصاب الوطن في مقتل ، الوطن الذي ينوح مع النائح :ـ

رماني الدهر بالارزاء حتى فؤادي في غشاء من نصال

فصرت اذا اصابتني سهام تكسرت النصال على النصال

تضع (رسالتنا) اصبعها على مواطن الداء . ولا ترفعها الا وحاولت تطهيره مما اصابه من عطب او جرثومة فساد او لوث ..

اقرأ (من شوارع الوطن) فاضحك ضحكاً كالبكا على حد قول ابي الطيب او صاحبه (صلاح البردويل) الضاحك الباكي ، ذي القلم (المبضع) الذي يجرح ليخلع جسماً غريباً ، او سلوكاً شاذاً ، او اداء تافهاً رمى به الدهر شوارع وطننا ، يخلعه صلاح بسخرية يتدفق معها الدمع ، ولا ادري ادمع حزن هو ام دمع فرح، ضحكت حتى البكاء من (مرآة الكبار) و(في المال ولا في العيال) و (ام خليل الهبلة) و (كعك على شواهد القبور) ... وعشرات من الصور التي التقطتها عين صلاح ، ورسمها قلمه بكلمات تذوب حسرة ، وقهراً ، وتهكماً .

اقلب صفحاتك فأقف عند (المختصر المفيد) العمود الرفيع المنتصب كحربة مستقيمة نجلاء ، تخترق ترائب الخطأ ، في طريقها الى خناجر الخطائين ؛ لتمزقها ، يستوقفني (غازي حمد) ذلك الشاب النابه ، الذي يحمله قلمه الى الممنوع بجسارة ليست بمستهجنة عليه ولا دخيلة ، فهو صاحب (رسالة) ابتلي من اجلها ، فصبر .. خرج غازي من ارض المخيم كنبات بري يختزن المقاومة ضد الرياح المجنونة ، والحرارة اللاهبة ، والعطش الذي يحرق الاكباد ، يقاوم النتح والذبول، خرج غازي ليرى اما ترملت وهي بعد صبية ، فقد ودعت شريك الحياة الى حيث يذهب شهداء وطني ، فامتلأ -منذ طفولته- وعيا وثأرا وثورة ، فنضح (المختصر المفيد) ليعالج ادواء الوطن ، الذي تغرقه الشقشقات ، والخطب المنبرية ، والصحافة الصفراء ، تغرقه الكلمات المأجورة ، والاقلام المأجورة ، والبضاعة المزجاة الرخيصة ، التي تنفثها وسائل الاعلام المسمومة ، المدمرة، والموجهة الى كل شيء حي فينا ، لتسحقه ، وتنسفه ، تدمر حياءنا ، وبيوتنا، واعرافنا، واخلاق الكرامة التي لازمناها ولازمتنا ، حارب غازي الفساد السياسي والمالي ، وحارب الظلم ، وقال لا لكل غرسة من غراس (الهالوك) ولكل طفيلي متسلق ، او ماسح احذية متعجرف نهم، لا يشبع من حلال قط، ولا يشبع من حرام قط.

اقلب صفحاتك لألتقي بشيخك الاستاذ الزاهد الكريم (يونس الاسطل) في رحاب آية ينذرنا من كيد يهود ، ودهائهم ، يواكب الحدث بمنطق قرآني بليغ ، كأنه تنزيل من التنزيل ، يقيم الشهادة لله.

ان يونس واحد من علماء بلادي صافح قلمه اول اصداراتك ، وقد بلغ اشده لأول صدورك ، وبلغ اربعين سنة ، فأوزعه الله شكر نعمته التي تمثلت في حفظه (العجيب) لكتاب الله بضبط عال كأنه معجم مفهرس لآياته ، بل هو معجم... يستحضر الايات وكأنها تتنزل لتوها لتعالج الواقعة ، وتؤكد ارتباط الارض بالسماء ، فكل همسة ، وكل خلجة ، ونأمة ، وكل عمل دق او جلّ هو في كتاب مستطر. يحدثنا عن ماضينا وواقعنا ، ومستقبل الايام والليالي الزاحفة بالبشر ان درنا مع رحى الاسلام ، والتمكين اذا كنا مع القرآن ، اذا افترق القرآن والسلطان ، ذلك وعد الله ، والله لا يخلف الميعاد ، آمن يونس بذلك ايمانا صادقا لا يدانيه شيء، مهما اشتد الباطل في لأوائه ، ومهما استبد اعوانه وتغطرسوا ، يسوق يونس المثل المعروف فيكسبه جمالا وجلالا ومهابة ، اعد قلمه ليكتب للقرآن ، ومع القرآن ، الذي عشقه ، ففر اليه من كلية الهندسة الى كلية الشريعة ، ليعطي بذلك مثالا فريدا (في حدود ما اعلم ) ويؤكد صدق المعادلة : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وكذا كان يونس ، فكان مكسبا لك، كما انك مكسب له، اذ اثراك واثريته ، وما كان لكلمات يونس ورؤيته لتكتب الا على صفحاتك ، فكنت انت وهو مكسبين لابناء بلدي.

واقلب صفحاتك لاصل الى براعة الفن وعبقرية التعبير والفرشاة المحاربة الى كاريكاتير (امية جحا) التي تجاوزت المأمول ، وتفوقت على نفسها بعد ان تفوقت على الاخرين ، تلك الصبية التي تذكرنا بالشعارات اللاهبة ، التي كانت تجعل من صدور اطفالنا مراجل تغلي ضد الاحتلال في بواكير الانتفاضة ، ان لوحات امية قصائد هجاء لأعداء الوطن ، لقد كسرت رشيتها اسار الهوية ، وعبرت الحدود لتقاتل في ميدان الانسانية ، الا ان لها عينا تدور -دائما- في زوايا الوطن، تفتش عن علة مخبوءة ، او وجه مستعار ، او لسان دعيّ لتجعل منه اضحوكة تتردد اصداؤها في صدور المحزونين ، الذين عبّرت لوحاتها عن ضمائرهم ، كما كانت لوحات ناجي العلي الفذ، ضمير فلسطين.

ثم اقلب صفحاتك لاقف امام (عبد الستار قاسم) الذي احترف النزال بجرأة لا يبالي بها خطره ، ثائرا ، عليما ، بظواهر الامور وخوافيها ، وعندما هجرك خسرت قلم مفكر له حكمة فيلسوف ، وصدق صوفي ، كان يملؤني احساسا بالراحة والطمأنينة على ان الدنيا (لسّه) بخير ، واسمحي لي ايتها العزيزة ان ادعوه -باسمك- ليعود الينا ، فالعود احمد ايها العزيز.

عزيزتي .. استأذنك هنا بالتوقف ، لاعود اليك في الاسبوع القادم ان ظل في العمر بقية -بمشيئة الله-

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة

 

 

 

تصميم وإشرافسامي يوسف نوفل