في انتظار حل "الفضيلة"

 

العودة إلى صفحة الرسالة

جواد ابوشمالة

لقد كشفت العاصفة التي اثارتها مروة قاوقجي -النائبة في البرلمان التركي عن حزب الفضيلة- بارتدائها الحجاب في جلسة الافتتاح البرلمانية عن عمق الازمة السياسية التي مازالت تعيشها تركيا منذ اكثر من سبعة عقود وهي تتمترس خلف نظام علماني يحرسه الجيش الذي نصب نفسه حامياً للاتاتوركية العلمانية لدرجة التدخل لمنع سيدة منتخبة من الملايين من ابناء شعبها من ممارسة عملها البرلماني وهي ترتدي الحجاب الاسلامي في بلد غالبيته الساحقة -90%- من المسلمين!! فكم هي دولة هشة تلك التي تهتز اركانها على خلفية ممارسة ابسط الحقوق والحريات الفردية، وليت الامر توقف عند هذا الحد ، بل وصل الامر بالمؤسسة الحاكمة والقضاء التركي -السلاح الماضي للجيش- باتخاذ اجراءات لحل حزب الفضيلة عقاباً له على تأييده لنائبته في البرلمان السيدة "قاوقجي" ومتهمين اياه بأنه خرج من تحت عباءة حزب الرفاه المحظور في بداية عام 1998.

ليست هذه هي المرة الاولى التي يقدم فيها القضاء التركي على اتخاذ اجراءات مماثلة لحل الاحزاب او قيام الجيش بانقلابات عسكرية كلما تعرضت علمانية الدولة للمساس والخطر فمنذ ان بدأت العملية الديمقراطية في تركيا في الاربعينيات ، انقلب العسكر على الحياة السياسية اربع مرات كان اولها عام 1960 مروراً بعامي 1971، 1980 وانتهاءً بالانقلاب الابيض الذي قام به الجيش عندما اجبر البروفيسور نجم الدين اربكان رئيس الوزراء التركي على ترك منصبه الحكومي في اواسط عام 1997 ، بعدها بدأت اجراءات حل حزب الرفاه الذي يتزعمه اربكان وهو ما حدث فعلاً في يناير عام 1998 ومنع اربكان وخمسة آخرين من قيادات "الرفاه" من تعاطي السياسة لمدة خمس سنوات !!

ولكن الاجراءات الحالية التي تخوض فيها الساحة القضائية المدعومة عسكرياً تختلف عن سابقاتها فهي تتضمن اجراءات "وقائية" لمنع اي تشكيل لتجمع سياسي اسلامي باسم جديد ، فالحديث لا يدور فقط عن قرار بحل حزب الفضيلة المتوقع صدوره في الاشهر القليلة القادمة ولكن القرار سيتضمن كذلك منع كوادر وقيادات الحزب ونوابه من الانضمام لحزب سياسي جديد قد يتم تشكيله بعد حل "الفضيلة" .

ان القرارات التي تعتزم السلطات التركية الحاكمة اتخاذها قريباً تعتبر الاخطر في تاريخ المساس بالديمقراطية التركية ، فهذه الاجراءات المتوقعة تعني بشكل واضح وسافر مصادرة لارادة قطاع واسع وهام من المجتمع التركي ، فهؤلاء النواب منتخبون من الشعب مباشرة ويمثلون رؤية متميزة واصيلة معبر عنها على شكل جماهير ومؤسسات وفكر ورؤى مستقبلية للدولة ومطلوب منهم ان يمثلوا جماهيرهم بكل صدق وامانة وهو بالضبط ما فعلته "قاوقجي" عندما اصرت على دخول البرلمان وهي محجبة لان ناخبيها منحوها الثقة كونها محجبة وليس غير ذلك ، هذا الصدق والامانة في التوجه دفع عشرات الآلاف من التركيات المحجبات الخروج الى الشوارع معربات عن دعمهن لمروة قاوقجي وضد القرارات التي تمنع ارتداء الحجاب في المؤسسات الحكومية .

لقد باتت لعبة الجيش واضحة ومكشوفة والتي يبدو فيها مصمماً على اقصاء التيار الاسلامي عن الساحة السياسية في تركيا ، وارتكزت خطته لتحقيق هذا الهدف على خطوتين الاولى كانت قبيل الانتخابات البرلمانية والبلدية حيث لوّح الجيش بورقة حل الحزب وقام بعدد من الملاحقات القضائية لاعضائه وكوادره وهي رسالة واضحة كانت موجهة للناخب التركي بهدف تخويفه من التصويت للاسلاميين على اعتبار ان ذلك سيؤدي الى عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد وربما نجح الجيش في هذه الخطوة الى حد ما حيث تقلص عدد نواب التيار الاسلامي في البرلمان من (145) مقعداً الى (111) مقعداً الا ان ذلك لم يكن كافياً لتحقيق اهداف المؤسسة العسكرية لان موقع "الفضيلة" في المركز الثالث يجعله مؤهلاً لان يلعب دوراً مهماً في الحياة السياسية وفي صنع التحالفات القادمة لتشكيل الحكومة الجديدة التي ربما يكون الفضيلة لسان الميزان في تشكيلها رغم العراقيل التي توضع امامه ، لذلك لجأ الجيش الى الخطوة الثانية -مستغلاً قضية حجاب مروة- فبدأ القضاء -بايعاز من الجيش- باتخاذ الاجراءات لحل "الفضيلة" والغاء الولاية البرلمانية لاعضائه ، هذه الخطوة لم تأت في هذا التوقيت عبثاً ، بل تجيئ في الوقت الذي كلف فيه الرئيس التركي سليمان ديمريل زعيم حزب اليسار الديمقراطي بولاند اجاويد بتشكيل الحكومة التركية القادمة وهي رسالة واضحة من الجيش للاحزاب بالابتعاد عن اي تشكيل حكومي يضم الاسلاميين ومن ذا الذي سيشكل حكومته بالائتلاف مع حزب معرض للحل في اي وقت ؟!

وهكذا بات تقديس العلمانية فرض عين على كل مواطن وبات الولاء لها اكبر من مجرد ولاء سياسي للقانون، ولاء فكري واخلاقي لعقيدة جديدة ، عقيدة فرضت على الجميع بالعنف والقوة والقهرية من قبل نخبة سياسية لا تمثل الا اقلية صغيرة في الامة ، وبذلت كل ما بوسعها لمنع اي مظهر من مظاهر حضور الاسلام في الحقل السياسي وليت الامر انحسر في النطاق السياسي للدولة ، لكنه امتد الى المجتمع وثقافته آتياً عليها بالحجر والتدمير حتى في طريقه اللباس.

لقد افرغت العملية الديمقراطية من مضمونها بعدم افساح المجال للعمل في الساحة السياسية سوى للاحزاب العلمانية وابعاد اي تجمع يقترب من الاسلام وشعاراته لتكون تركيا هي الدولة الوحيدة التي لم تتلازم فيها العلمانية مع الديمقراطية ، تلازماً طبيعياً كما هو الحال في الدول الغربية ويعود ذلك بسبب التنافر والصراع بين النخب العلمانية الحاكمة والتي هي عبارة عن نخبة من المثقفين تعتنق وتدافع عن الايدلوجية الكمالية وهي التي احتكرت المؤسسات الحكومية ووسائل الاعلام لتصبح الصوت الوحيد المسموع في البلاد مقابل الثقافة والمجتمع المحكوم بسلطة الدين وهو عبارة عن مجتمع مدني مستقل وقوي كأحد السمات المميزة لتركيا ويتمتع بقدرة بارزة في الحفاظ على استقلاليته من هيمنة العسكر ورمز هذا الصراع والتناقض هو تدخل الجيش السافر في الساحة السياسية والديمقراطية التركية خصوصاً بعد صعود الحركة الاسلامية ممثلة بحزب الرفاه الى الحكم ، فتآمر الجيش ضده وانقلب عليه معرضاً الديمقراطية الى مذبحة لا نظير لها في تاريخ الدول العلمانية وهو ما يظهر مدى هشاشة المؤسسة العلمانية الحاكمة التي لا تستطيع منافسة خصومها عبر الوسائل السلمية والمدنية المشروعة والشريفة ليؤكد ان بقاء الاحزاب العلمانية منوط بحماية الجيش لها ، فهو نظام قام بالقوة ويعيش بالقوة ويبدو انه لن ينتهي الا بالقوة؟

والآن السؤال الذي يطرح نفسه : ما هو مستقبل الحياة السياسية في تركيا في ضوء التطورات الاخيرة ؟
يبدو ان الاعيب الجيش قد فعلت مفعولها مع الاحزاب الممثلة في البرلمان حيث من المتوقع ان لا يجازف احدها بالحوار مع "الفضيلة" لتشكيل الحكومة القادمة وذلك بسبب الغموض الذي اخذ يكتنف مستقبل هذا الحزب ولو عدنا الى موقف الاحزاب من قضية حجاب مروة لوجدنا ان حزب اليسار الديمقراطي كان الاكثر معارضة لدخول "قاوقجي" البرلمان وهي ترتدي الحجاب وكذلك فعل نواب "يلماظ" اما نواب الحركة القومية اليمينية المحافظة فقد التزموا الصمت وهو ما يشير الى ان الحسابات السياسية المستقبلية للائتلاف الحكومي حكمت سلوك نواب الحركة القومية -غير المعادي للحجاب- ما يعني ان الحركة القومية ورغم عدائها لحزب اليسار الديمقراطي قد ابقت الباب مفتوحاً امام التحالف مع اجاويد ويلماظ لتشكيل الحكومة وهو الاحتمال الارجح حتى الآن ولكن هل ستشهد الساحة السياسية استقراراً على المدى القريب على الاقل ؟! يبدو ان هذا الامر بعيد المنال وذلك لاسباب عديدة :ـ

- ان حل حزب الفضيلة الذي يمثل نوابه اكثر من 20% من نواب البرلمان سيثير توتراً كبيراً سينعكس على الشارع وفي البرلمان نفسه حيث ان عدداً كبيراً من النواب -من غير الفضيلة- لا يؤيدون نهج العسكر الذي يصادر الحريات والرغبات الشعبية .

- ان وجود حزب اليسار الديمقراطي والحركة القومية في حكومة واحدة-وهما الخصمان اللدودان- سيثير ازمات عديدة في المستقبل خاصة فيما يتعلق بقضية الاكراد والثائر المعتقل عبد الله اوجلان وقرارات الحد من المظاهر الاسلامية في تركيا فضلاً عن قضية الفساد المرتبطة بمسعود يلماظ والمتوقع وجوده في الائتلاف القادم .

- ان الازمة التركية الداخلية آخذة بالاستفحال حتى لو تم تشكيل الحكومة من قبل بولاند اجاويد وسبب ذلك استمرار معاندة العسكر لتوجهات ونبض الشارع التركي وثقافته وحضارته ، فالمشكلة ليست بنجاح هذا الزعيم او ذاك بتشكيل الحكومة وانما في الصراع الدائر على هوية تركيا وثقافتها وحضارتها ودورها السياسي المستقبلي .

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة

 

 

 

تصميم وإشرافسامي يوسف نوفل