رسالة

د. عطا الله أبو السبح

العودة إلى صفحة الرسالة

.. الى أب ..

ما الرسالة الثالثة التي توقفت عندها رسالتي السابقة فارجو اخي القارئ ان تسمح لي ان اوجهها الى اب توجه لي ولده بالشكوى منه فكتبت له .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ترددت طويلاً قبل ان امسك بالقلم ؛ لا كتب لك ، وكان مبعث حيرتي انني سأخاطب فيك اباً محترماً ، مثقفاً ، والداً قدوة ، رقيق الحاشية ، يذوب ادباً ، ورقة عند ملاقاة الاصدقاء ، عفيفاً عند الحاجة ، طيب المعشر ، يترك في نفس محدثه طمأنينة ، وامناً ، ليس عدوانياً ، ولا جدلياً ، يقبل عليه من عرفه بكثير من التوقير .

سيدي .. انني انسان .. فيه ما في الانسان من نقص وقصور . اعترف انني وقرتك ، واحترمتك . اعترف انني ساورني احساس بالضيق وانا استمع لحديثك (المثقف) قليل الكلمات ، الخارج من بين شفتيك المبتسمتين ، اعترف انني رأيت فيك مثالاً ، كم تمنيت ان يقتدي به الكثير من معلمي اولادنا ، والآباء . اعترف انني كنت اشعر بالتقصير اذا استقبلتك بابتسامة عريضة طويلة ، اذا جاءت اقل عرضاً وطولاً لما يستحق محياك، واشعر بالتأنيب اذا خالجني احساس بضرورة التعقيب على كلامك ، او مجرد ابداء الرأي بين يديك في قضية هي في مجال تخصصي لا تخصصك ، اشعر بالخجل اذا شغلني عنك شاغل .

سيدي .. كنت شيئاً جميلاً ، حتى جاءتني رسالة ولدك ، تنضح الماً ، وقهراً، كتبها وانين كرامته التي تسحقها صباح مساء ، يجعل من كلماته شاكية ، باكية ، ضارعة، كتبها وسوط ابوتك يجلده بجلافة ، ويشويه بغطرسة ، ويقتله بالشك !! اذهلني عندما اخبرني انك قناع ليس الا ... رقة حاشيتك قناع ، ادبك قناع ، عفتك قناع ، طيب معشرك قناع !! ابتسامتك عباءة سوداء ، تخفي تحتها انياب خناجر ، سرعان ما تجردها - بعد ان تلقي بالعباءة على عتبة دارك - وتغرز الخناجر في كبد فرحة اطفالك ، وتسوط زوجتك بلسان عقربي سام ، تصرخ اذا طرحت السلام ، وتصرخ اذا اعلنت الحرب ، وتصرخ اذا قمت ، وتصرخ اذا رقدت ، كأنك كيان من صراخ ، تقطيبة جبينك لا تزايل وجهك ابدا ، طعامك خاص، وفاكهتك خاصة ، تأكل بتلذذ ولا تبالي بالنظرات الجائعة من عيون صغارك ،بل تتسلى وتنتشي بحرمانهم ، والادهى انك تخاف عليهم من عيون الحاسدين ان تفوقوا ؛ فتكره لهم التفوق ، تحطمهم ، تهزأ من ابداعاتهم ، تحسبهم في افقك الضيق كسرداب في كهف مظلم ، وتكبلهم بكشرتك ، فلا يقتربون منك ابداً .

تشكو ملامحهم منك اليك ، فأنت -ويا للهوان- الخصم والحكم ، ولا نظر لك ، ولا سمع يمكنك من رؤية الشكوى او سماعها ، عجيب امرك يا سيدي ، تصرخ بالفضيلة ، وتغرق حتى اذنيك في مجون تافه ، ساقط ، سخيف ، تنفثه في كيانك المنزوي فضائيات المجون ، والتفاهة ، والسقوط ؛ ظاناً انك في منأى من عيون صغارك التي تلاحقك ، وتصل اليك ، وتخترق عليك الابواب الموصدة ، تتصورك وانت مهزوم وقد استبدت بك الشهوة الفاجرة ، تتخيلك وانت غارق في مستنقع ينهب حياءك ، ويقطع الطريق عليك الى الحياة ... اي سقوط هذا واي ضياع ؟!!

يا سيدي ... اقسم لك اني حزنت منك ولاجلك ، ما الذي شطرك نصفين ؟ ما الذي جعلك اثنين ؛ ملاكاً وشيطاناً ؟ ملاكاً مع الآخر ، وشيطاناً مع ذاتك ، مع امتدادك ، مع اهلك ، وفرعك ، مع سترك ، وتواصلك .

انت شيطان مخيف مع من يحمل اسمك ، وملاك معي وانا الغريب عنك . فكيف هذا وكيف وكيف ؟!!
كيف تفهم الابوة ؟ بالله عليك اجبني ، كيف تفهمها غير انها حنان وعطاء ورسالة ؟ كيف بالله تفهمها غير انها عبادة وانسانية وتواصل ؟!

مع من تكون حنوناً ، ان لم تكن مع كبدك ودمك وقلبك ؟!

لمن تعطي ، ان لم تعط لملاذك وامنك ؟!

لمن تحقق الحياة ، ان لم تحققها لروحك ؟! لمن؟!

يا سيدي .. اذا كان ودادك معي ؛ لأقول : انك ودود ؟ فأنا عابر سبيل ، قلّما نلتقي ، فلحظات السعادة التي تعيشها معي هي قليلة . بل الى زوال . فكيف تكتفي بها عن سعادة تتحقق لك على الدوام ان احسنت لنفسك باحسانك لولدك ، ورعايتك له ؟

هل تظن ان جبروتك سيدوم ؟ وسوط ابوتك لن يتقطع ؟

هل تظن ان استبدادك يحقق لك ذاتاً او كينونة ؟ لا يا سيدي .. ان جبروتك يتضاءل الا تراه ؟ واستبدادك يتضاءل كذلك !!!

مهما بلغت من قوة ، فلن تخرق الارض التي انبتتك ، وانبتت هؤلاء الاولاد الذين تشويهم بنيران ابوتك.

ومهما تطاولت ، فلن تبلغ الجبال ، التي ترتفع لها هامات اولادك ، طولا . ان هامات اولادك ستعلو -بلاشك- فوق هامتك. وعندئذ لن ينفعك الندم .. هي الحياة يا سيدي ، افق .

لن ينفعك الندم ، عندما تصغر انت ، ويكبر ولدك الذي يكبر في صدره الحقد الذي زرعته -في صدره- يداك .

لن ينفعك الندم وهم يجلدونك بسوط العقوق ، بعد ان علمتهم العقوق ، ووضعت في ايديهم سوطه . لن ينفعك الندم، وهم يدوسون كبرياءك الكاذب ويمقتون النسيم الذي يلامس لسانك الذي كان معهم - في يوم من الايام- بذيئاً .

الابوة -يا سيدي- رحمة متجددة ، وخفقة قلب اذا تألم الولد او اجاد .. هي الحب الإلهي الذي ان حل في قلب كان قلب نبي .

والاولاد -يا سيدي - آية يدلل الله بها على عظمته . والدليل على العظيم عظيم ، فكيف تحط منها ؟!
الابوة -يا سيدي- ليست سلطة مطلقة ، تستبد ان شاءت ، وتشمخ ان شاءت . تسحق ان شاءت ،وتعصف ان شاءت ، لا ، بل الابوة؛ خلق حميد ، وصلاة . الابوة ؛ شكر على نعمة، ونعمة على شكر . الابوة ؛ وطن ، ونصير ، وسلام .

ما كانت الابوة سبيلاً للضياع ، بل سبيل للتآلف ، والتراحم ، والانتماء .

قل -بالله عليك- من الذي قسى قلبك على قلبك ؟!!

لا اتصور ان ناقصاً يستكمل نقصه بإعنات ابعاضه او قطعها !

كيف - بالله- يهون عليك ان تهدم بنيان الله بيدك ؟ وتخرب بيتك بيدك ؟ التفت حولك لترى النعيم الذي اسبغه الله عليك ، التفت حولك لترى كم من عقيم تعصف به اللوعة ؛ لما يقاسي من حرمان ! وكم يستبد به الشوق لبسمة طفل ، او حتى بكاء طفل يحقق له التواصل مع الحياة ؟ وانت لست عقيماً .

كم من اب يقتله الحزن والجوى ؛ لمرض عضال سكن جسد ولده ؟ واولادك ينعمون بالعافية ، ويبعدون عنك الحزن والجوى !!

كم شيخ مهزول يحمله ولده على اكف الراحة ، يمسح دمعه ، يذهب احزانه ،يسري عنه ، وينعم به ومعه بحياة كريمة ؟ الا تعتبر ؟!!

هل تطمئن لحادثات الزمان والايام ، وسود الليالي ؟!

اسرح بخيالك الى بعيد ، اضرب في الزمان الآتي والمكان البعيد ، عش لحظة -في الخيال- وانت في حاجة لولدك ، حيث لا تقوى على شيء؛ فقيراً لا تملك شيئاً ، اعمى لا ترى شيئاً ، قعيداً لا حراك فيك !! من لك غير ولدك ، يمدك بالقوة ، واسباب الحياة ، والضياء ، والحركة ، وبسعادة غامرة ، وعطاء موصول .

ما قيمة ان تنقطع للنوافل دون الواجبات ؟ اي عاقل يرضى بهذا ؟!

صدقني .. لقد وقف شعر رأسي لرسالة ولدك؟ رأيت فيها نبوغاً واي نبوغ ، شخصية قوية جريحة ، ورأيت اثر انيابك في كل حرف من حروفها ، وكل حرف منها هو خفقة من خفقات قلبه المحزون .

اعلم ان الولد سر ابيه . فكيف تهتك سرك ، وتذبحه بهذه الابوة الشاذة المجنونة .

يا سيدي .. ان ولدك حري ان تجعل منه جوهرة نرصع بها مجالسك ، او مفخرة تباهي بها الدنيا .. فلا تقتله ، لا تقتله !!

يا سيدي .. انني لا اطلب منك الا ان تقدم لنفسك .. فأنت الى افول (طبعاً) وولدك الى استدارة ، وكمال وفتوة طبعاً (ايضاً) ، هي الحياة يا سيدي ...

فإذا اردت ان تتجدد استدارتك ، وكمالك ، وفتوتك ، فكن ولدك قلباً وقالباً ، حتى يصير ولدك (انت) قلباً وقالباً .

وعندئذ ، وعندئذ فقط انت (أب)

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ملاحظة : الحاج الذي اعادوه من مطار جدة دون اداء الفريضة هو الاخ العزيز المهندس / عيسى النشار - رفح .

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة

 

 

 

تصميم وإشرافسامي يوسف نوفل