.. الى أب ..
ما الرسالة الثالثة التي توقفت
عندها رسالتي السابقة فارجو اخي القارئ ان تسمح لي
ان اوجهها الى اب توجه لي ولده بالشكوى منه فكتبت له
.
السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته
ترددت طويلاً قبل ان امسك
بالقلم ؛ لا كتب لك ، وكان مبعث حيرتي انني سأخاطب
فيك اباً محترماً ، مثقفاً ، والداً قدوة ، رقيق
الحاشية ، يذوب ادباً ، ورقة عند ملاقاة الاصدقاء ،
عفيفاً عند الحاجة ، طيب المعشر ، يترك في نفس محدثه
طمأنينة ، وامناً ، ليس عدوانياً ، ولا جدلياً ،
يقبل عليه من عرفه بكثير من التوقير .
سيدي .. انني انسان .. فيه ما في
الانسان من نقص وقصور . اعترف انني وقرتك ، واحترمتك
. اعترف انني ساورني احساس بالضيق وانا استمع
لحديثك (المثقف) قليل الكلمات ، الخارج من بين شفتيك
المبتسمتين ، اعترف انني رأيت فيك مثالاً ، كم
تمنيت ان يقتدي به الكثير من معلمي اولادنا ،
والآباء . اعترف انني كنت اشعر بالتقصير اذا
استقبلتك بابتسامة عريضة طويلة ، اذا جاءت اقل
عرضاً وطولاً لما يستحق محياك، واشعر بالتأنيب اذا
خالجني احساس بضرورة التعقيب على كلامك ، او مجرد
ابداء الرأي بين يديك في قضية هي في مجال تخصصي لا
تخصصك ، اشعر بالخجل اذا شغلني عنك شاغل .
سيدي .. كنت شيئاً جميلاً ، حتى
جاءتني رسالة ولدك ، تنضح الماً ، وقهراً، كتبها
وانين كرامته التي تسحقها صباح مساء ، يجعل من
كلماته شاكية ، باكية ، ضارعة، كتبها وسوط ابوتك
يجلده بجلافة ، ويشويه بغطرسة ، ويقتله بالشك !!
اذهلني عندما اخبرني انك قناع ليس الا ... رقة حاشيتك
قناع ، ادبك قناع ، عفتك قناع ، طيب معشرك قناع !!
ابتسامتك عباءة سوداء ، تخفي تحتها انياب خناجر ،
سرعان ما تجردها - بعد ان تلقي بالعباءة على عتبة
دارك - وتغرز الخناجر في كبد فرحة اطفالك ، وتسوط
زوجتك بلسان عقربي سام ، تصرخ اذا طرحت السلام ،
وتصرخ اذا اعلنت الحرب ، وتصرخ اذا قمت ، وتصرخ اذا
رقدت ، كأنك كيان من صراخ ، تقطيبة جبينك لا تزايل
وجهك ابدا ، طعامك خاص، وفاكهتك خاصة ، تأكل بتلذذ
ولا تبالي بالنظرات الجائعة من عيون صغارك ،بل
تتسلى وتنتشي بحرمانهم ، والادهى انك تخاف عليهم من
عيون الحاسدين ان تفوقوا ؛ فتكره لهم التفوق ،
تحطمهم ، تهزأ من ابداعاتهم ، تحسبهم في افقك الضيق
كسرداب في كهف مظلم ، وتكبلهم بكشرتك ، فلا يقتربون
منك ابداً .
تشكو ملامحهم منك اليك ، فأنت -ويا
للهوان- الخصم والحكم ، ولا نظر لك ، ولا سمع يمكنك
من رؤية الشكوى او سماعها ، عجيب امرك يا سيدي ،
تصرخ بالفضيلة ، وتغرق حتى اذنيك في مجون تافه ،
ساقط ، سخيف ، تنفثه في كيانك المنزوي فضائيات
المجون ، والتفاهة ، والسقوط ؛ ظاناً انك في منأى من
عيون صغارك التي تلاحقك ، وتصل اليك ، وتخترق عليك
الابواب الموصدة ، تتصورك وانت مهزوم وقد استبدت بك
الشهوة الفاجرة ، تتخيلك وانت غارق في مستنقع ينهب
حياءك ، ويقطع الطريق عليك الى الحياة ... اي سقوط
هذا واي ضياع ؟!!
يا سيدي ... اقسم لك اني حزنت منك
ولاجلك ، ما الذي شطرك نصفين ؟ ما الذي جعلك اثنين ؛
ملاكاً وشيطاناً ؟ ملاكاً مع الآخر ، وشيطاناً مع
ذاتك ، مع امتدادك ، مع اهلك ، وفرعك ، مع سترك ،
وتواصلك .
انت شيطان مخيف مع من يحمل اسمك
، وملاك معي وانا الغريب عنك . فكيف هذا وكيف وكيف ؟!!
كيف تفهم الابوة ؟ بالله عليك اجبني ، كيف تفهمها
غير انها حنان وعطاء ورسالة ؟ كيف بالله تفهمها غير
انها عبادة وانسانية وتواصل ؟!
مع من تكون حنوناً ، ان لم تكن
مع كبدك ودمك وقلبك ؟!
لمن تعطي ، ان لم تعط لملاذك
وامنك ؟!
لمن تحقق الحياة ، ان لم تحققها
لروحك ؟! لمن؟!
يا سيدي .. اذا كان ودادك معي ؛
لأقول : انك ودود ؟ فأنا عابر سبيل ، قلّما نلتقي ،
فلحظات السعادة التي تعيشها معي هي قليلة . بل الى
زوال . فكيف تكتفي بها عن سعادة تتحقق لك على الدوام
ان احسنت لنفسك باحسانك لولدك ، ورعايتك له ؟
هل تظن ان جبروتك سيدوم ؟ وسوط
ابوتك لن يتقطع ؟
هل تظن ان استبدادك يحقق لك
ذاتاً او كينونة ؟ لا يا سيدي .. ان جبروتك يتضاءل
الا تراه ؟ واستبدادك يتضاءل كذلك !!!
مهما بلغت من قوة ، فلن تخرق
الارض التي انبتتك ، وانبتت هؤلاء الاولاد الذين
تشويهم بنيران ابوتك.
ومهما تطاولت ، فلن تبلغ الجبال
، التي ترتفع لها هامات اولادك ، طولا . ان هامات
اولادك ستعلو -بلاشك- فوق هامتك. وعندئذ لن ينفعك
الندم .. هي الحياة يا سيدي ، افق .
لن ينفعك الندم ، عندما تصغر
انت ، ويكبر ولدك الذي يكبر في صدره الحقد الذي
زرعته -في صدره- يداك .
لن ينفعك الندم وهم يجلدونك
بسوط العقوق ، بعد ان علمتهم العقوق ، ووضعت في
ايديهم سوطه . لن ينفعك الندم، وهم يدوسون كبرياءك
الكاذب ويمقتون النسيم الذي يلامس لسانك الذي كان
معهم - في يوم من الايام- بذيئاً .
الابوة -يا سيدي- رحمة متجددة ،
وخفقة قلب اذا تألم الولد او اجاد .. هي الحب الإلهي
الذي ان حل في قلب كان قلب نبي .
والاولاد -يا سيدي - آية يدلل
الله بها على عظمته . والدليل على العظيم عظيم ،
فكيف تحط منها ؟!
الابوة -يا سيدي- ليست سلطة مطلقة ، تستبد ان شاءت ،
وتشمخ ان شاءت . تسحق ان شاءت ،وتعصف ان شاءت ، لا ،
بل الابوة؛ خلق حميد ، وصلاة . الابوة ؛ شكر على
نعمة، ونعمة على شكر . الابوة ؛ وطن ، ونصير ، وسلام .
ما كانت الابوة سبيلاً للضياع ،
بل سبيل للتآلف ، والتراحم ، والانتماء .
قل -بالله عليك- من الذي قسى
قلبك على قلبك ؟!!
لا اتصور ان ناقصاً يستكمل نقصه
بإعنات ابعاضه او قطعها !
كيف - بالله- يهون عليك ان تهدم
بنيان الله بيدك ؟ وتخرب بيتك بيدك ؟ التفت حولك
لترى النعيم الذي اسبغه الله عليك ، التفت حولك
لترى كم من عقيم تعصف به اللوعة ؛ لما يقاسي من
حرمان ! وكم يستبد به الشوق لبسمة طفل ، او حتى بكاء
طفل يحقق له التواصل مع الحياة ؟ وانت لست عقيماً .
كم من اب يقتله الحزن والجوى ؛
لمرض عضال سكن جسد ولده ؟ واولادك ينعمون بالعافية
، ويبعدون عنك الحزن والجوى !!
كم شيخ مهزول يحمله ولده على
اكف الراحة ، يمسح دمعه ، يذهب احزانه ،يسري عنه ،
وينعم به ومعه بحياة كريمة ؟ الا تعتبر ؟!!
هل تطمئن لحادثات الزمان
والايام ، وسود الليالي ؟!
اسرح بخيالك الى بعيد ، اضرب في
الزمان الآتي والمكان البعيد ، عش لحظة -في الخيال-
وانت في حاجة لولدك ، حيث لا تقوى على شيء؛ فقيراً
لا تملك شيئاً ، اعمى لا ترى شيئاً ، قعيداً لا حراك
فيك !! من لك غير ولدك ، يمدك بالقوة ، واسباب الحياة
، والضياء ، والحركة ، وبسعادة غامرة ، وعطاء موصول
.
ما قيمة ان تنقطع للنوافل دون
الواجبات ؟ اي عاقل يرضى بهذا ؟!
صدقني .. لقد وقف شعر رأسي
لرسالة ولدك؟ رأيت فيها نبوغاً واي نبوغ ، شخصية
قوية جريحة ، ورأيت اثر انيابك في كل حرف من حروفها
، وكل حرف منها هو خفقة من خفقات قلبه المحزون .
اعلم ان الولد سر ابيه . فكيف
تهتك سرك ، وتذبحه بهذه الابوة الشاذة المجنونة .
يا سيدي .. ان ولدك حري ان تجعل
منه جوهرة نرصع بها مجالسك ، او مفخرة تباهي بها
الدنيا .. فلا تقتله ، لا تقتله !!
يا سيدي .. انني لا اطلب منك الا
ان تقدم لنفسك .. فأنت الى افول (طبعاً) وولدك الى
استدارة ، وكمال وفتوة طبعاً (ايضاً) ، هي الحياة يا
سيدي ...
فإذا اردت ان تتجدد استدارتك ،
وكمالك ، وفتوتك ، فكن ولدك قلباً وقالباً ، حتى
يصير ولدك (انت) قلباً وقالباً .
وعندئذ ، وعندئذ فقط انت (أب)
والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته
ملاحظة : الحاج الذي اعادوه من
مطار جدة دون اداء الفريضة هو الاخ العزيز المهندس /
عيسى النشار - رفح .