العشائرية بين السياسة والفكر في الحياة الفلسطينية

نهاد الشيخ خليل

العودة إلى صفحة الرسالة


واجهت العشائرية ، وعلى خلفية احداث رفح المؤلمة، هجوما من طرفين ، الاول يتمثل في بعض مسؤولين في السلطة ، اعتبروا ان ما وقع من احداث مؤسفة في مدينة رفح مرده الى رغبة بعض العائلات في ان تكون فوق القانون ، وتجدر الاشارة هنا الى ان مسؤولين في السلطة سبق لهم وأن اتهموا صراحة بعض السياسيين بالتحريض ومحاولة تسييس الحادث، والطرف الثاني تمثل في بعض كتّاب المقالات في الصحف اليومية الذين لهم مواقف فكرية -ربما- من مسألة العائلة الممتدة والعشيرة ، وقد حمّل هؤلاء النزعة العشائرية البغيضة المسؤولية الرئيسة -مع الاشارة الى اسباب اخرى- عما حدث في رفح وذلك لأن بعض العائلات اصبحت مقتنعة ان بإمكانها الضغط والتأثير على مجرى العدالة.

اذاً نحن امام موقفين من العشائرية ، كل منهما ينطلق من وجهة نظر مختلفة احدهما يتعامل معها بمنطق فكري وهو موقف يتبناه بعض الكتّاب ، والاخر ينظر الى العشائرية نظرة سياسية بهدف تجييرها لصالحه ، وهو موقف السلطة.

ولتوضيح الموقف الفكري من مسألة العشائرية لابد من استعراض مختصر للجدل الذي دار في الفكر السياسي والاجتماعي الغربي بشأن الدولة والعائلة ، وحُسم هذا الجدل بأن اصبحت الدولة هي صاحبة الدور الاساسي في المجتمعات الغربية، واخذت الدولة هذا الدور بالتدريج من خلال توسيع رقعة الوظائف التي تقوم بها الدولة ، وتقليص دور العائلة والعشيرة ، وخلال الجدل اتهمت العائلة والعشيرة في مختلف المذاهب الفكرية الغربية بالعجز عن تحقيق التقدم وبإعاقته احيانا، ومن ثم كانت المطالبة الصريحة بنقل وظائف العائلة الى مؤسسات الدولة ، وقد تزامن هذا مع مناخ اقتصادي رأسمالي اوسع ابرز سماته تكريس التعاقدية في مقابل التراحمية ، والمنفعة في مقابل الاخلاق ، وتحويل العلاقات الاجتماعية الى علاقات سلعية.

كما ترافق كل ذلك مع نزعة علمانية استهدفت تنحية الدين عن كل شيء ، ونزع القداسة واخراج المطلق من المنظومة المعرفية ، بما في ذلك الاسرة ليس كوحدة اجتماعية فحسب بل كقيمة ومثالية ، لكن الدولة التي انتقلت اليها وظائف الاسرة ، لم تستطع القيام بها حيث تدنت اوضاع التعليم -نسبيا- وارتفعت معدلات الجريمة والادمان ، وتدهورت القيم وانتشرت الامراض العضوية والنفسية ، وظهرت مشكلات كبار السن والمشردين . وفيما بعد ، خاصة في سنوات السبعين والثمانين من هذا القرن ، تجدد النقاش والجدل بشأن العائلة ومكانتها في المجتمع الغربي ، وبدأ التركيز على اهمية حماية وصيانة العائلة النووية ، اما العائلة الممتدة (العشيرة) فلم يكن هنالك مجال لانقاذها ، خاصة وان الدولة في الغرب تقوم بواجبات كثيرة تجاه المواطنين.

اما في حالتنا الفلسطينية فقد عاش شعبنا طيلة هذا القرن تحت احتلالات مختلفة ، وقد لعبت العائلة الممتدة والنووية (الاسرة الصغيرة) الدور الاساسي في الحفاظ على هوية المجتمع ، وساهمت في رفد المقاومة بافضل المقاتلين ، ورعت اسرة الشهيد ، واعتنت بأبناء الاسير ، ووفرت الحماية لزوجات الغائبين والمبعدين والمشردين.

وفي الوقت الذي استطاع فيه الاحتلال بسط سيطرته على كل مرافق الحياة قانونيا وعمليا ، وتمكن من اضعاف كل مؤسسات المجتمع وتنظيماته وحركاته السياسية والثقافية والدينية والثورية ، بقيت الاسرة والعائلة هي الحصن المنيع وخط الدفاع الاخير ، الذي عمل على القيام بالوظائف الحضارية المعطلة ، سواء على المستوى الديني او الوطني وكذلك الثقافي في كثير من الاحيان.

صحيح ان هناك نزعة لعصبية جاهلية خاصة في موضوع الثأر ، التي كثيرا ما امتدت سنوات طويلة بين العائلات ، لكن هذه الظاهرة يمكن تطويقها ومعالجتها ، وبالفعل فقد شهدت سنوات الانتفاضة تقدما واضحا على هذا الصعيد ، حيث ابدت عائلات كثيرة تسامحا كريما ، او قبولا بالدية نزولا على حكم الشرع الحنيف، وفي كل الاحوال فإن وجود بعض المظاهر السلبية لا يبرر الهجوم على العشائرية هجوما شاملا ، بل يجب التركيز على المظاهر الجاهلية النتنة حسب تعبير الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال عن التعصب للعشيرة "دعوها فإنها نتنة" .

والحديث عن سلبيات العشائرية يقودنا للموقف الاخر ، الذي ينظر للعشائرية من وجهة نظر سياسية ، بهدف تجييرها لصالحه ، وهو موقف السلطة ، فالسلطة وعلى لسان اكثر من مسؤول ابدت تذمرها من قيام العائلات بالنزول للشارع والاحتجاج بهذه الطريقة العنيفة ، لكن وفي محاولة لاستخلاص العبر من هذه الاحداث المأساوية التي لا يحبها ، ولا يدعو اليها احد ، اسجل النقاط والملاحظات التالية:ـ

1ـ السلطة ومنذ تأسيسها ، وربما بسبب وجود معارضة سياسية قوية ، او لاسباب اخرى كذلك ، عملت على تعزيز وتقوية وضع العائلات من خلال ظاهرة المخاتير ، والتعيينات الحكومية ، ومجالس العائلات ، الامر الذي ادى الى بروز النزعة السلبية للعشائرية وهي التعصب والاستقواء بالعائلة ، وما تحظى به من مناصب للتعدي على حقوق الاخرين احيانا، حتى ان هذه الامور ادت الى حدوث خلافات في داخل العائلة الواحدة احيانا حول منصب المختار او غيره.

2ـ السلطة هي التي سمحت باعطاء الانطباع ان النزول للشارع من قبل العائلات يفيد في ممارسة الضغط واستصدار قرارات محددة ، وهذا ما حدث في المعسكرات الوسطى عندما نزلت حركة فتح وعائلة الخالدي للشوارع واشعلت الاطارات مطالبة بإعدام قتلة الاخوين الخالدي، وكذلك ما حدث في خان يونس عندما نزلت عائلة ابو شمالة الى الشارع وغيرها من مناطق الضفة كذلك ، حتى ان بعض الاقلام الصحفية امتدحت حركة فتح بسبب قدرتها على تحريك الشارع وممارسة الضغط خاصة في المنطقة الوسطى من القطاع على خلفية قضية الاخوين الخالدي.

3ـ ان ما حدث في رفح ليس محاولة انقلابية من عائلات مخيم يبنا ، انه شبيه بكل الاحداث السابقة ، انه صرخة من جمهور ظن انها لن تصل ان لم تخرج بقوة ، وربما ان الذي زادها قوة هو محاولة الشرطة منعها في اليوم الاول للاحداث ، ولو ان الشرطة تعاملت معها بتسامح ، كما حدث من قبل في المعسكرات الوسطى وفي خانيونس لما تطورت الامور.

4ـ ان ما حدث في رفح ليس مرغوبا ، ولا يصلح ان يكون نموذجا للعلاقة الوطنية التي ينشدها الجميع ، لكن يجب الابتعاد عن معالجته بالاسلوب الامني، ويجب عدم النظر اليه وكأنه محاولة للي ذراع السلطة وابتزازها ، والدليل على ذلك ان المواطنين عادوا الى بيوتهم والتزموا الهدوء ، عندما تحقق مطلبهم بوعد من الرئيس ياسر عرفات بإعادة النظر في المحاكمة ، والافراج عن المعتقلين في الاحداث.

5ـ ذكرنا ان السلطة لحظة تأسيسها لجأت الى العائلات للحصول على دعمها وتأييدها في مواجهة المعارضة السياسية ، والان عندما قامت العائلات بالاحتجاج على قرارات ومسلكيات معينة للسلطة ، قامت السلطة بإشراك القوى السياسية في تهدئة الخواطر ، الامر الذي يدل على غياب تصور استراتيجي لمجمل العلاقات الوطنية ، ففي كل مرة تقوم السلطة بعلاج موضعي للاحداث ، وتنتهي الامور .

ان الحرص على مصلحة الوطن، يتطلب في اللحظة الراهنة مراجعة مع الذات على الصعيد السياسي وعلى الصعيد الفكري، وإن القاء الاتهامات جزافا هنا وهناك - على الصعيدين- واستخدام كل التبريرات لن يغطي حقيقة وجود ازمة وخلل سيزدادان عمقا وانتفاخا كلما تأخرت المراجعة واستخلاص العبر التي يعرفها الجميع ولا حاجة لتكرار ذكرها هنا.

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة

 

 

 

تصميم وإشرافسامي يوسف نوفل