قراءة تحليلية في أحداث رفح

 

العودة إلى صفحة الرسالة

صالح النعامي

لم يكن واردا في حسابات دائرة صنع القرار في السلطة الفلسطينية ان يؤدي قرار محكمة امن الدولة بالحكم بالاعدام على احد افراد الاجهزة الامنية وعضو سابق في الجناح العسكري لحماس الى هذه الموجة العارمة من الاحتجاجات والمظاهرات العنيفة ، وتصادم الجماهير الغاضبة في مدينة رفح مع قوات الامن والذي ادى الى سقوط اثنين من المتظاهرين وجرح العشرات ، وقد بدا المتحدثون باسم السلطة الفلسطينية عاجزين عن تقديم تفسير مقنع لهذه التطورات الدراماتيكية ، فتارة يعزون ما حدث الى تدخل متعاونين مع اسرائيل في اشعال التظاهرات وتارة اخرى يلمحون الى مساهمة تنظيمات فلسطينية معارضة في ذلك بقصد "خلق فتنة ولزعزعة الاستقرار في مناطق نفوذ السلطة" ، واخيرا ، اختزلت السلطة تفسير ما حدث بالقول ان ذلك يرجع الى "بروز العشائرية والتعصب للانتماء القبلي والمناطقي".

الدكتور جميل هلال استاذ علم الاجتماع والذي قدم دراسات عديدة بخصوص الواقع الاجتماعي والسياسي في الاراضي الفلسطينية بعد اوسلو يرى ان ما شهدته رفح انما يمثل احتجاجا جماهيريا على انعدام نزاهة القانون والتداخل الواضح في عمل السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية وغياب مؤسسة حقيقية لدوائر السلطة التنفيذية واجهزتها وخصوصا الاجهزة الامنية التي لا تخضع الى ادنى مستوى من مستويات الرقابة ، لكن بالطبع لا يمكن حصر التراكمات التي ادت الى احداث رفح في انعدام الثقة بنزاهة القانون وسلامة الجهاز القضائي ، فهناك اتهامات كثيرة توجه للمستوى السياسي بسبب اعتماده الانتقائية والازدواجية في التعامل مع من يتهم بتجاوز القانون، فمن ناحية تجند وزراء السلطة ومنظروها للدفاع عن حكم الاعدام الذي اثار حفيظة سكان مدينة رفح ، لكن في المقابل عمل المستوى السياسي على طي سجل الفساد ورفض الاستجابة لنداءات اعضاء المجلس التشريعي التي حثت على تقديم المتورطين في قضايا الاختلاس للمحاكمة ، بل ان الذين وجهت اليهم هيئة الرقابة العامة والمجلس التشريعي اتهامات بالتورط في قضايا الفساد كوفئوا بابقائهم في مناصبهم الوزارية في حين تم خلع الوزراء الذين لم توجه اليهم اية اتهامات ، كما ان هناك احساسا قويا في الشارع الفلسطيني بأن السلطة تعمل بكل قوة على اخضاع الايقاع الداخلي ومجمل العلاقات الوطنية لمقتضيات العملية التفاوضية مع اسرائيل ، كما ان دخول وكالة المخابرات الامريكية كشريك في عملية التنسيق الامني بين السلطة واسرائيل قد قلص هامش المناورة امام القيادة الفلسطينية في تعاملها مع القوى السياسية والاجتماعية في الاراضي الفلسطينية ، فصدور مرسوم حظر التحريض وجمع الاسلحة وتضييق الخناق على الصحافيين وحملات الاعتقال العشوائية التي تلت التوقيع على اتفاق "واي " شاهد على التوجه الرسمي الفلسطيني فيما يتعلق بالموازنة بين العلاقة مع اسرائيل والعلاقة مع القوى الفلسطينية الاخرى، الى جانب ذلك فإن تكرار السلطةالقول بأن الذين اصدرت بحقهم محكمة امن الدولة الاحكام بالاعدام والسجن كانوا يخططون لتنفيذ عمليات تفجير داخل اسرائيل قد فسر من بعض المراقبين على انه جاء لاقناع الولايات المتحدة بأن السلطة تقوم بدورها في مجال مكافحة الجماعات التي تتبنى العمل العسكري ضد اسرائيل. ما حدث في رفح يعكس ايضاً رفضا جماهيريا لتوجه السلطة اللامحدود نحو السيطرة على مصادر القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الى جانب احتكار شرعية استخدام العنف. اذا كانت احداث رفح متميزة من حيث استخدام العنف والاصابات التي نجمت عن ذلك ، فإنها لم تكن صورة الاحتجاج الوحيدة على ممارسات السلطة ، فقبل صدور الحكم بالاعدام تفجرت الاوضاع في مدينة خانيونس القريبة منها وذلك احتجاجاً على تورط عقيد في الشرطة الفلسطينية في اغتصاب طفل ، وكانت هذه الاحتجاجات السبب في اصدار محكمة امن الدولة حكماً باعدام العقيد بعد ان كان قد صدر بحقه حكم بالسجن 15 عاماً ، ومنذ بداية العام الحالي قام قطاع الموظفين في دوائر السلطة المختلفة بالاضراب عن العمل احتجاجاً على التطبيق المتعثر لقانون الخدمة المدنية ، كما قام المعتقلون السياسيون بالاضراب عن الطعام احتجاجاً على احتجازهم بدون محاكمة او لوائح اتهام ولم ينته الاضراب الا بعد استجابة السلطة لمطالب المعتقلين.

الدكتور جمال هلال يفند الادعاء بأن ما حدث في رفح انما يمثل نزعة نحو التعصب العشائري غير المبرر قائلاً : ان السلطة الفلسطينية شجعت على بروز العامل العشائري . ذلك في سعيها للهيمنة على المجال السياسي والاجتماعي في الاراضي الفلسطينية من اجل تهميش دور الاحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني ، من هنا كانت معظم التعيينات في مجالس الحكم المحلي والبلديات على اعتبار عشائري .

في المقابل فقد عادت التطورات المتلاحقة في رفح على غياب واضح لدور الاحزاب والحركات السياسية المعارضة.

فقد تجنبت هذه الاحزاب القيام بأي فعل يجعل السلطة تتهمها بالاستفادة من الاحداث وتجييرها لمصلحتها السياسية ، فضلاً عن مثل هذه الاحداث . ولعل غياب دور للحركات السياسية هو الذي جعل تأثير احداث رفح آنياً ، بل ان هناك من يعتقد انه يخدم السلطة على اساس انه يمثل "تنفيساً" عن تراكمات في اذهان الفلسطينيين .

المشكلة تكمن في انه هناك انطباع لدى المواطن الفلسطيني ان الاحزاب والحركات السياسية لا تستطيع مواجهة ما تقوم به السلطة من تجاوزات بحقه وبالتالي فإنه يلجأ الى مجتمعه المحلي وعشيرته كملاذ للاحتماء، وهذا السلوك ان تواصل فإنما يؤسس لفوضى عارمة تعم الاراضي الفلسطينية ، من هنا فقد وجهت الدعوة للسلطة الفلسطينية بأن تعمل على اعادة الاعتبار للحركات السياسية كجزء هام في النظام السياسي الفلسطيني قيد التبلور ، الشروع في حوار وطني حقيقي للوصول الى الحد الادنى من القواسم المشتركة التي تضمن استقرار وسلامة المجتمع الفلسطيني مع تمتع كل فصيل بالحق في التعبير عن آرائه السياسية ، مع العلم ان جولات الحوار الوطني في الماضي كانت تتم بشكل موسمي وكانت السلطة تستخدمها لممارسة الضغط على اسرائيل وسرعان ما تعود لاسلوبها الدارج في التعامل مع القوى السياسية والمتمثل في الاغراء والمعالجة الامنية .

ما حدث في رفح مرشح للتكرار مرة اخرى ويمكن بصورة اوسع واكثر عنفا مع العلم ان شرائح جديدة قد انضمت للاحتجاج على اسلوب السلطة مثل عناصر من " فتح" ومستقلين الامر الذي ينذر باتساع رقعة المشاركة الجماهيرية فيها مستقبلا ، وكل هذا مرهون بمواصلة السلطة لنهجها الحالي ، ومما يجعل الامر محرجا اكثر للسلطة الفلسطينية ان احداث رفح تفجرت بالقرب من حلول موعد استحقاق 4/مايو/1999م اليوم الذي من المتوقع ان تكون فيه المرحلة الانتقالية قد انتهت و كذلك الموعد "المقدس" لاعلان الدولة ، مما يرسم علامات استفهام حول استعداد السلطة لملء هذا الفراغ اذا كانت العلاقات الفلسطينية / الفلسطينية على هذا النحو من السوء والتدهور.

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة

 

 

 

تصميم وإشرافسامي يوسف نوفل