صالح النعامي
لو ترك الامر للذين يتعاملون
بجمود وقصر نظر مع تعاليم الشريعة الاسلامية فإن
حكومة اسلامية لا يمكنها الا ان تطالب بدم شخص مثل
جعفر النميري الذي حكم السودان لعقدين من الزمان ،
وكان مثالا للحاكم الطاغية : ظلم وقتل وسجن ونهب ،
بل ان قصته مع ارئيل شارون وزعماء الموساد باتت
معروفة ، فالنميري هو الذي اسهم في ترحيل يهود
الفلاشا من اثيوبيا الى اسرائيل، ولو كان الامر
متعلقا بموقف الحركة الاسلامية في غير السودان لما
تنازلت عن تنفيذ حكم "الشرع" كما تفهمه ، في
النميري ، لكن حكومة السودان التي تشكلها الحركة
الاسلامية لم تطالب بدم النميري ، بل انها سمحت له
مؤخرا بالعودة الحرة الى الخرطوم مع كل الضمانات
التي تكفل سلامته!!
لماذا تغض حكومة السودان
الاسلامية الطرف عن جرائم النميري ؟! لا احد يمكن ان
يتهم المفكر الاسلامي العظيم البرفسور حسن الترابي
بعدم الاحاطة بتعاليم الشريعة او انه لا يعمل على
تحقيق مقاصدها وهو صاحب مشروع الدولة "الرسالية"
.. لكنها النظرة الثاقبة والقياس المطلوب لموازنة
الامور والمعيار السديد لاصدار الاحكام .. هنا
مطروح مستقبل المشروع الاسلامي في السودان وافاق
تطوره تحقيق مصلحة عظيمة كتلك تكفي لتجاوز "جرائم
" النميري الذي لم يعد له حول ولا قوة.
فالحكم الاسلامي في الخرطوم
يبحث عن الشرعية الدستورية والشعبية وهذا لا يمكن
ان يتحقق الا بحشد الجماعات والاحزاب ذات المشارب
السياسية المختلفة ، ومازال هناك قطاع محدود داخل
السودان يؤيد النميري ، مع العلم ان حكومة الحركة
الاسلامية في السودان سمحت ايضا بعودة قادة
الاحزاب والمليشيات المسيحية التي كانت تقاتل
الحكومة المركزية ، بل وتتآمر مع اعداء السودان
وذلك عملا بمبدأ "تشتيت صف الاعداء" .. في
السودان يتعامل الحكام الاسلاميون وفق "فقه "الواقع"
وفقه "الموازنات" .. لقد كان رأس النفاق عبد
الله بن ابي بن سلول هو اكثر الذين ناصبوا النبي صلى
الله عليه وسلم العداء ، لكنه (ص) رفض دعوة بعض
الصحابة لقتله ، وقال قولته المشهورة "حتى لا
تقول العرب ان محمدا يقتل اصحابه .. هكذا تقاس شئون
الدول وعلى ذلك يحاول الترابي والبشير السير بسلام
بحذر لاتقاء مكر المتربصين ... في السودان رجال دولة
فقهاء اصحاب نظرة سياسية ثاقبة ومفكرون في مستوى
التحدي ، ليسوا غوغائيين مردوا على ترديد الشعارات
الفجة والافعال القليلة.
الكاتب والباحث البريطاني
سيلفان زينهار يقف مشدوها امام ما يسميه بـ "حكمة
قادة السودان الاسلاميين" الذين يقول عنهم انهم
باتوا "ذئابا سياسية" ويواصل زينهار الذي وردت
اقواله ضمن برنامج خاص بثته الاذاعة الاسرائيلية
عن السودان ، الحديث عن مبادرة الحكومة السودانية
بدعوة معارضيها بالعودة للبلاد قائلا " ما قامت
به حكومة الرئيس البشير يدحض بشكل جارف دعاوى
العلمانيين في العالم العربي وبعض الاوساط في
الغرب من انه في حال تولي الحركات الاسلامية فستعمل
على اقصاء كل من خالفها" .. ما ادركه قادة العمل
الاسلامي في السودان مازال الكثيرون من قادة
الحركة الاسلامية في بلدان اخرى بعيدين كل البعد عن
استيعابه ، هؤلاء لازالوا اسرى المواقف السابقة
والاحكام الجاهزة والتعامل القاصر مع النصوص ...
من المؤسف حقا انه في كثير من
الاحيان فإن بعض الذين يتولون مهمة التنظير للطرح
الاسلامي انتقائيون يختارون ما ينسجم مع فكرتهم
ويهربون من كل ما يعتقدون ان من شأنه هدمها
وتقويضها ، ولا يظهرون ميلا للتعاطي مع الظواهر
واحاطتها من جوانبها المختلفة ، وذلك لانهم
يتجاهلون قيود الواقع وكثرة الاعداء الامر الذي
جعل الكثير من السهام تطيش ولا تصل الى هدفها.
الحركة الاسلامية تجمع يسوس
امره بشر يحملون لواء رسالة سماوية ولا يستطيعون
الاتيان بالمستحيل ولا يمكنهم تجاوز قوانين الارض
وحركة المجتمع ، وكما يقول احد المفكرين
الاسلاميين فإنه عندما تنفصل الحركة الاسلامية عن
الارض والناس تصبح كالبذرة في غير تربتها الصحيحة
ومناخها الطبيعي.
الحركة الاسلامية لا يمكنها
تحديد اصول المواجهة مع اعدائها لان امكانياتها
اضعف من ذلك ، في الوقت الذي استعانت فيه الانظمة
العربية والتكتلات الاقليمية والدولية بـ "العولمة"
لتطوير ادائها في محاربة الاسلاميين ، فها هم
يطاردون ابناء الحركة الاسلامية في اقاصي امريكا
الجنوبية وفي ادغال افريقيا لكي يواجهوا مصيرهم
امام الجلادين.
من هنا فقد آن الاوان للكف عن
تجاهل عوائق الواقع، وحان الوقت لاستيعاب محددات
السياسة ، نعم المطلوب ان يضع الفقهاء الذين يتولون
اتخاذ القرارات الحاسمة "نظارات السياسة" على
عيونهم حتى تظهر الصورة متكاملة وواضحة.
قالوا عنه انه الحاكم الفعلي
لاسرائىل وان نتنياهو لا يباشر الحكم الاّ بعد ان
يغمض هو عينيه ، يرأس ثالث اكبر حزب سياسي في
اسرائيل وامسك منذ عشر سنوات بكل خيوط اللعبة
السياسية في الدولة العبرية ، سيرته قصة نجاح
منقطعة النظير ، اصبح وزيرا قبل ان يبلغ السابعة
والعشرين من عمره كان اسحاق رابين يقف امامه
مستمزجا رأيه بينما ينشغل هو بنفث غليونه دون ان
يظهر حماسا للرد عليه .. كل هذا لم يشفع لأرييه درعي
زعيم حركة "شاس" اليهودية الدينية ، ولم يحل
دون اصدار احدى المحاكم اللوائية الاسرائيلية حكما
بالسجن الفعلي لاربع سنوات عليه بعد ان ثبت تورطه
بتلقي رشاوى من بعض اصحاب المصالح ، مع العلم ان
قيمة هذه الرشاوى لم يتجاوز مائتي الف دولار ....
الامر الاكيد ان الوزراء الذين اتهموا بالفساد في
السلطة الفلسطينية سيصيبهم الاغماء من شدة الضحك
على تشدد القضاء الاسرائيلي في معاقبة درعي ، هؤلاء
اتهموا بتبديد مئات الملايين من الدولارات ومع ذلك
فانهم ازدادوا اطمئنانا في مناصبهم ، وهذا ما دفع
احد نواب " شاس" في الكنيست ان يصرخ في غمرة غضب
قائلا " لو كان درعي عربيا لعومل بصورة اكثر
انصافا " ... المهم في الامر ان محاكمة درعي تبرز
مزيدا من مواطن الاختلاف بين اسرائيل الدولة
الديموقراطية وبين الدول العربية والسلطة
الفلسطينية ... ارييه درعي حاخام ويرأس حزبا دينيا
ولا زال عدد من مجلس حاخامات هذا الحزب يؤمنون
بالشعوذة ويتعاملون ب" السحر" لكن الطابع
الديني لحزب درعي لم يكن مانعا امام نجاحه وسرعة
تأثيره في قضايا المجتمع والدولة في اسرائيل بينما
في كثير من الدول العربية لا يجوز لحزب سياسي يتبني
الطرح الاسلامي للمشاركة في الحياة السياسية ، وفي
سوريا والعراق فان " القانون" ينص على وجوب فرض
حكم الاعدام على كل من يثبت انتماؤه لحركات اسلامية
محددة ، وفي الاقطار التي تسمح للاسلاميين
بالمشاركة في الحياة السياسية فانه يتم التلاعب في
النظام السياسي حتى يتم تقزيم حجم الحركة
الاسلامية وتهميش دورها مثل الاردن ، الذي اودى
بدرعي هو الفساد ، والفساد هو "وصفة" النجاح
عندنا ومعيار التقدم . معلقا على محاكمة درعي يكتب
ناحوم برنيع المحلل السياسي لصحيفة " يديعوت
احرنوت " مشيدا بعدالة القضاء الاسرائىلي قائلا
بعد مرور 51 عاما على وجود الجهاز القضائي في دولتنا
" فانه يمكن القول انه لا مجال امام الفاسدين
للنجاح والاستمرار في المشاركة في الحياة العامة
" ، لقد بدأ الساسة في اسرائيل الذين كانوا
يخطبون ود درعي في التخلي عنه ، بل ويعلنون انهم لن
يجروا مع " شاس" اي مفاوضات في حال بقاء ارييه
درعي رئىسا لها بينما لا يتورع الفاسدون عندنا عن
الظهور على شاشات التلفاز وكأنهم قد فتحوا القدس ،
ولا يخجلون من الحديث عن النزاهة وتصنع الطهارة . في
ديباجة الحكم الصادر على درعي يقول القاضي :ـ
"نحن نعلم ان هذا الحكم
سيشكل رادعا لكل مسؤول من ان يستخدم منصبه وموقعه
الرسمي لابتزاز الناس ، انا على يقين ان احدا بعد
درعي لن يجرؤ على اقتفاء اثره " ... بمحاربة الفساد
يحافظ الصهاينة على مشروعهم الوطني ... اما عندنا
نحن العرب فان "مشاريعنا الوطنية" تبدأ
بالفساد وبه تنتهي !!