من شوارع الوطن

بقلم : صلاح البردويل

العودة إلى صفحة الرسالة

 

الكرسي لمن يدفع .. يا ولدي!!

افتح الشنطة لو سمحت ، قالت السيدة العجوز وهي تهم بتحميل ما استلمته من المؤن من خان يونس متجهة الى النصيرات الى حيث بيت ابنها الذي سكن هناك مؤخرا.

صعدت العجوز وصعد معها طفلان وصبية ، الى الكرسي الخلفي للسيارة.. ، بادرها السائق بعدما نظر في المرآة : ثلاثة انفار يا حاجة .. قالت وهي تلهث : لا ابني .. نحن نحشر انفسنا في مقعدين ويبقى الكرسي الثالث لمن يدفع .. والركاب كثيرون!!

استأنفت الحاجة وهي تكاد تبكي : انا والصبية نجلس على الكرسي يا بني واحمل على رجليّ الطفلين .. صحيح ان الالم يمزق رجليّ ولكن وجع اهون من وجع!! من اين سأدفع لك الثلاثة .. ثم استطردت والجميع يسمع: لقد اخذتهم عندي لاخفف عن امهم حملها بعدما سجن ابوهم واخوهم ، قاطعتها : لماذا ؟ قالت : ابدا .. والله انه لم يمدّ يده على العسكري .. ولكن اولاد الحرام شهدوا بذلك ، زاد فضولي وقلت : أي عسكري؟ قالت : الذي ارسلته البلدية الى السوق ، ثم وجدت العجوز ان المجال مفتوح لتكمل قصتها.. قالت :كان ابني وابنه يبيعون السردين خارج سوق البلدية ، وهو حذر جدا من سيارة البلدية ، لكن عمى القلب هذه المرة جعل البلدية تباغته والعسكر يهجمون عليه ويضربون سردينة بأرجلهم .. وعندما صرخ فيهم لطمه احدهم كفا ، ابنه الذي رأى والده يبكي امام عينيه جن جنونه ، وتشربح في رقبة العسكري وقطع ازراره ، وبعدما اشبعوه ضربا بعثروا السردين في سرخام الطريق واعتقلوا الاثنين.. المصيبة ليست في الاعتقال وانما في ثمن السردين .. والله لقد اشتراه من البحر دينا.

ماذا استفدنا نحن من البلدية الان؟ قاطعها السائق: وماذنبي انا لو استوقفتني الشرطة وفقعتني مخالفة اربعة عشر دينارا على زيادة الركاب ؟ هل تظنين انهم سيرحمونني؟ قال راكب : لن يرحموك ولن يرحموا غيرك طالما ان في الامر دفعا لهم.. وقبل ان يكمل الشاب كلامه تصدى له الراكب في الكرسي الامامي، والذي لم ير منه الا قفاه ، ويده التي تتحرك بالسيجارة من فمه الى المنفضة الكائنة في وسط السيارة والتي يعلوها ملصق مكتوب عليه "ممنوع التدخين" قال : هذا يحدث في كل دول العالم .. هل تعلمون ان ثمانين في المائة من خزينة السلطة هو من تحصيل الاموال من الجمهور بكافة قطاعاته!! اذا لم تدفع انت وهي.. وهو.. فمن الذي سيدفع؟ ومن اين سيقبض الناس ؟ رد الشاب: واين اموال الدول المانحة ؟ اجاب بسرعة : اسأل المنظمات الاهلية يا استاذ!! فهي التي تبتز معظم اموال الدول المانحة وانتم دائما تتهمون السلطة .. حرام عليكم يا ناس!

السيارة كانت قد قطعت اكثر من نصف الطريق .. وقد شعر السائق بعدم الجدوى ، فظل صامتا ، بينما انبرت الحاجة لبث باقي همومها .. قالت : والله اننا لا نعرف الدول المالحة ولا الاموال المالحة .. نحن لا نرى الا المياه المالحة والوجوه الكالحة.. ثم استطردت تكلم نفسها : من اين سندفع الكفالة؟.. آخ يارجلي آخ .. آخ يا زمن  ..

شعر السائق بصدق المرأة العجوز وكادت السيارة تصل الى النصيرات .. قال : اسمعي يامّا .. استريحي انزلي الاولاد في الكرسي.. رزقي ورزقكم على الله.. نفرين .. نفرين.. قالت: يا بني: ما بقي من العمر اكثر مما مضى!! وما بقي من الطريق مثل ما مضى !! تعودنا على الهم والتعب .. يا ولدي الكرسي ليس لنا.. الكرسي لمن يدفع .. الله يرضى عليك.. ابتسم السائق واخذ يغني اغنية غطت عليها اصوات الناس في السوق .... الله يرضى عليك يا ابني ظهري انحنى والهم شيبني.

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة

 

 

 

تصميم وإشرافسامي يوسف نوفل