أوجلان يغيب والأكراد يتعهدون بمواصلة الكفاح رغم قساوة الظروف

العودة إلى صفحة الرسالة

تقرير / نهاد الشيخ خليل

لقد دخلت صورة الزعيم الكردي عبد الله اوجلان ، وهو مكبل معصوب العينين ، الحزن على قلوب الكثيرين من بني البشر ، الذين ربما لم يسمعوا باسمه من قبل ، واثار اكراد تركيا اعجاب العالم باسره وهم يتظاهرون ويحرقون انفسهم تضامنا مع زعيمهم المعتقل ، واحتجاجا على امتناع دول اوربا منحه حق اللجوء السياسي ، كما ابرز هذا الاعتقال وما صاحبه من مظاهرات حقيقية وجود اقلية كبيرة في تركيا ، مهضومة الحقوق ، تعاني من القمع بعد فشل كل جهود الدولة التركية في استئصال هويتهم وثقافتهم .

من هم الاكراد ؟ وماذا يريدون ؟ ولماذا يقمعون ؟ ولماذا يتدخل في شأنهم الاخرون ؟ واي مستقبل ينتظرهم بعد ان اظهرت عملية تشريد اوجلان واعتقاله ضعف حلفاء الاكراد وجبروت اعدائهم ؟

**من هم الاكراد ؟

الاكراد هم جماعة قومية لكنها لازالت حتي اللحظة تعيش بدون دولة ، ويعيش الاكراد في منطقة جغرافية واحدة عرفت عبر التاريخ باسم " كردستان" وهي منطقة جبلية ومنها ينبع نهرا دجلة والفرات ، وينتظم الاكراد اجتماعيا في قبائل عديدة كثيرة اشهرها البرازنية والزيبارية والقادرية ، وتبلغ مساحة اقليم " كردستان" 530 الف كم ورغم وحدة هذا الاقليم جغرافيا الا انه خضع للتقسيم وفق خطة الاستعمار بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى بين اربع دول تركيا(50%) وايران(25%) والعراق(17%) وسوريا (13%) .

ويبلغ عدد الاكراد - وفقا لاغلب التقديرات - حوالي 32 مليون نسمة موزعين كالتالي :(12) مليون في تركيا و (6) مليون في ايران و (4) مليون في العراق ومليون في سوريا ، وينقسم الاكراد من الناحية الدينية الى اغلبية كبرى من المسلمين السنة (70%) واقلية كبرى الشيعة (22%) وزيديين (4%) ومسيحيين (4%) ويتحدث الاكراد عدة لغات قريبة من اللغة الفارسية .

** ماذا يريد الاكراد ؟

لقد عاش الاكراد طوال تاريخهم في كنف الدولة الاسلامية في حالة الانسجام ، ورفدوا الدولة الاسلامية بخبراتهم وشاركوا في بناء الحضارة الاسلامية ، شأنهم في ذلك شأن بقية الشعوب الاخرى التي دخلت الاسلام ويكفيهم فخرا ان خرج من بينهم القائد الفذ صلاح الدين الذي لازالت سيرته وامجاده محلا لفخر الامة الاسلامية بكل شعوبها واعراقها .

لكن سقوط الخلافة الاسلامية ، وتقسيم الاستعمار لتركتها وبروز القوميات ، خاصة القومية الطورانية التركية ، اثار آمال الاكراد في التطلع لاقامة دولة كردية ، وقد اعترفت معاهدة سيفر بين الدول الاستعمارية 1920 ، والتي تم بمقتضاها تقسيم الدولة العثمانية الاسلامية واسقاط الرابطة الروحية بين الاتراك وغيرهم من الشعوب الاسلامية ، اعترفت هذه المعاهدة بحق الاكراد في اقامة دولة لهم ، لكن كمال اتاتورك زعيم تركيا حال بين الاكراد وبين تشكيلهم دولة تخصهم ، وذلك بتحالفه معهم اولا ضد الفرنسيين واليونان ، ثم ما لبث ان انقلب عليهم بعد جلاء الدول الاستعمارية ، وسحق تطلعاتهم ، وحصل على اعتراف الغرب ، في اطار معاهدة لوزان 1923 ، بالدولة التركية الجديدة على حساب الاكراد ، ثم قام اتاتورك بمنع استخدام اللغة الكردية ، ومارس عملية استئصال منظمة للهوية والثقافة الكردية .

ويرى اتاتورك وخلفاؤه من العسكر الذين يسيطرون على مقاليد الحكم في تركيا ، انه لا يوجد اي اقليم كردي ، او اي شعب كردي او سلالة كردية في اي عصر من العصور التاريخية كانت منفصلة عن الاتراك ويجزم العسكر ان الاكراد ينحدرون من قبيلة طورانية جاءت من اسيا الوسطى ، ويقولون ان المسألة الكردية اليوم هي اداة يلهو بها بعض المنتفعين وذوو النفوس الضعيفة في تركيا والعراق وايران وسوريا .

وازاء هذه النظرة والسياسات الاستئصالية التي تمارس ضد الاكراد تبلورت محاولات كثيرة للدفاع عن الذات ، ولنيل الاستقلال وكان ابرز التعبيرات عن الطموح الكردي بالاستقلال استمرارا واوسعها انتشارا هو " حزب العمال الكردستاني " بقيادة عبد الله اوجلان .

*** حزب العمال الكردستاني

تأسس " حزب العمال الكردستاني " 1978 على يد عبد الله اوجلان ، وكان اوجلان يومها طالبا في قسم العلوم السياسية في انقرة ، ويعتبر حزب العمال حزبا ماركسيا لينينيا اشتهر بعلاقاته مع الاتحاد السوفييتي ، ويقاتل هذا الحزب لاقامة "كردستان كبرى " كدولة مستقلة على اراض تقتطع من تركيا وايران والعراق وسورية. وتعرض اوجلان للسجن في العام 2791م لمدة سبعة اشهر بسبب انشطة موالية للاكراد. وقبل انقلاب سنة 1980 فر اوجلان من تركيا وهو يعيش منذ ذلك الوقت في المنفى ، وفي اغلب الوقت في دمشق او في سهل البقاع اللبناني الخاضع للسيطرة السورية حيث اقام مقر قيادته العام ومخيم تدريب لمناصريه ، واغلق هذا المخيم في سنة 1992 بضغوط من انقرة على سوريا ولبنان.

وبدأ حزب العمال الكردستاني الكفاح المسلح في 51 آب سنة 1948 ضد انقرة ، ومنذ ذلك الوقت تعتبره انقرة منظمة ارهابية وتخصص لمحاربته ما يقارب 10 مليار دولار سنويا ، كما ان المعارك التي دارت بين الطرفين تسببت في مقتل 30 الف انسان من الجانبين مع تدمير اعداد كبيرة من القرى الكردية ، وتهجير الاف الاكراد الى اوروبا ، وتذكر بعض الاحصائيات ان عدد طالبي اللجوء السياسي من الاكراد في المانيا سنة 1996 بلغ 240 شخصا.

**التوجه نحو الحل السياسي

وفي اذار 1993 اعلن وقفا لاطلاق النار من جانب واحد وانهاه في ايار مطالبا في المقابل بفتح حوار سياسي مع انقرة ، لكن الحكومة التركية لم تعترف بهذه الهدنة ، وفي كانون الاول 1995 اعلن اوجلان هدنة جديدة من جانب واحد ومؤخرا ،ايضا، هدنة في الاول من ايلول 1998 ، لكن الجيش التركي رفض هذه الهدنات على الفور، ورفض ايجاد حل سياسي لمشكلة الاكراد، وبدلا من ذلك تصرفت الحكومة والجيش التركيان بطريقة انتحارية ، وكانوا على استعداد للتضحية بكل شيء حتى لو ادى ذلك الى حرب اقليمية مع العرب، او تخريب للعلاقات الاقتصادية مع اوروبا في سبيل القاء القبض على اوجلان.

وقد رأى الكثير من المراقبين في عرض الهدنة وكذلك تنازله عن اقامة دولة كردستان وتبنيه لفكرة اقامة اتحاد فيدرالي في تركيا على غرار الاتحاد الكونفدرالي بين الاكراد والعراق والذي انضج بموافقة امريكية ، رأى الكثير من المراقبين ان هذه بادرة ايجابية من اوجلان ، لكنها ذهبت ادراج الرياح بسبب رفض الجيش والحكومة لها.

**دلالات اعتقال اوجلان

ان ضيق الدنيا في وجه اوجلان ، وانسداد جميع الابواب باستثناء باب السجن في الجزيرة المعزولة ليحمل دلالات كبيرة وخطيرة في ذات الوقت ، خاصة وان هذا الانسان الذي ينصبه شعبه بطلا ويرى فيه قائدا عظيما ، تتآمر عليه كل اجهزة الاستخبارات العالمية اما بالفعل او بالسكوت وتسهيل المهام ، ويصر نظام العولمة الاستخباري والاعلامي على تسميته ارهابيا رغم انف الشعب الكردي الذي ابدى استعداده لفداء اوجلان بكل ما يملك حتى لو باحراق الانفس.

وبين هذين الموقفين ، موقف الاكراد ، وموقف الجيش والحكومة التركيين ، وحلفائهم تختفي وتبرز دلالات عديدة كل واحدة اخطر من الاخرى وهي:

- يعكس سقوط اوجلان مدى قساوة وشراسة المتغيرات الاقليمية والدولية ، التي تبحث دائما عمن تطحنه ، فالنظام العالمي الجديد لا يسمح للتغيرات ان تحدث دون وقوع ضحايا ، وذلك لتهيئة الظروف لمشاكل قادمة في منطقة الشرق الاوسط . لذلك لم ينظر الى ابداء اوجلان استعداده لحل سياسي ، وقبوله بحكم ذاتي ، ولم يسمح لاحد بايوائه ، وتم منع كل الاطراف من تقديم العون لحزبه او مؤازرة نشاطاته.

**ازدياد التهديد الاسرائيلي للامن الاقليمي

* ان مشاركة اسرائيل في اعتقال اوجلان توضح ان اسرائيل لم تعد مشكلة للفلسطينيين وحدهم، ولم تعد مشكلة عربية، بل تعدت ذلك لتصبح مشكلة اقليمية، فهي تهدد العرب وتعتدي عليهم في فلسطين ولبنان، وتتحالف مع تركيا لتهديد سوريا والعراق وايران، وتساعد تركيا في القضاء على الاكراد. وتقيم علاقات مع بعض قادة الاكراد في شمال العراق لتفتيت العراق وللتجسس على حزب العمال الكردستاني مساعدة لتركيا . وبالطبع فإن مشاركة اسرائيل في اعتقال اوجلان سيكون لها ثمن على صعيد تقوية التحالف التركي الاسرائيلي ضد الدول العربية .

** الولايات المتحدة تمعن في الغطرسة

يحلو للبعض وصف السياسة الامريكية في العالم بأنها ذات معايير مزدوجة لكنها اكثر من ذلك، انها امعان في الغطرسة ، فهي تعادي ايران رغم ميل الاخيرة المعلن للتصالح والتهدئة الداخلية والخارجية، وفي ذات الوقت تحالف تركيا رغم توتيرها للاوضاع مع العرب واوروبا ومع فئات المجتمع التركي مثل الاكراد .

كما ان امريكا تتحالف مع اكراد العراق لتفتيت هذا البلد، وتعادي اكراد تركيا بسبب رغبتهم في الاستقلال. وكذلك فهي تضغط وتحرض وتحشد القوة الهائلة لقصف كوسوفو، وفي نفس الوقت تلجأ الى سياسة مناقضة تماماً ازاء الصراع التركي الكردي،بينما لا يختلف ما تمارسه تركيا ضد الاكراد عما تمارسه بلغراد ضد البان كوسوفو. كل ما في الامر هنا هو ليس انقاذ مسلمي كوسوفو من وحشية الصرب، بل هزيمة الصرب بسبب ولائهم لروسيا.

** اوروبا تخون اوجلان والاكراد

*رفع الاوروبيون شعارات حقوق الانسان لمواجهة تركيا، واحتجوا على سوء معاملة تركيا للاكراد، وسمحت بعض الدول الاوروبية للاكراد بالتحرك على اراضيها . لكنها رفضت منح اوجلان حق اللجوء السياسي ، رغم انه حسب القوانين الاوروبية يستطيع الحصول عليه بسهولة، ووقفت اوروبا عاجزة عن مواجهة الضغوط الامريكية ، خاصة وهي تعلم ان امريكا تريد انهاء قضية اوجلان ارضاءً لتركيا، وذلك كثمن لما تقوم به تركيا على صعيد السماح للقوات الامريكية من استخدام قاعدة انجرليك في ضرب العراق.

* وان هذا الموقف من اوروبا يجعل العرب مطالبين باعادة النظر في مقولات الاعتماد على سياسات ومواقف دول اوروبيةفي مواجهة امريكا واسرائيل .

** مستقبل الاكراد بعد اوجلان

ان سقوط اوجلان في الاسر اوضح ان تقرير الشعوب لمصيرها في هذا العصر الذي يوصف بأنه قرية صغيرة اصبح من ضمن المحرمات،فالاقوياء هم الذين يقررون مصائر الآخرين،وكل المعاندين لهذه الحقيقة ستطالهم عولمة الاستخبارات وتودعهم في السجون، كما ستعمل عولمة الاعلام على تشويههم .

لكن في المقابل اوضحت ردة فعل الاكراد مدى حيوية وقدرة هذا الشعب على الفعل والتأثير واثارة الاهتمام . فالاكراد رغم خسارتهم لزعيم مهم ومؤثر استطاعوا ان يضعوا قضيتهم امام الرأي العام العالمي بكل وضوح . لكن بلا شك فالايام القادمة ستكون اصعب بالنسبة لهم، ليس فقط بسبب خسارتهم لاوجلان، بل بسبب الحظر الذي تفرضه امريكا على كل من تسول له نفسه مساعدتهم، فهم قد يعوضون زعيمهم بزعيم آخر، لكن السؤال هو : هل ستتوفر لهم ظروف اقليمية ودولية تساعدهم؟ ام ستستمر هذه الظروف في معاندتهم والحيلولة بينهم وبين تحقيق امانيهم؟ ويبقى السؤال مفتوحاً .

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة

 

 

 

تصميم وإشرافسامي يوسف نوفل