الديانة اليهودية ظهرت بعد ميلاد المسيح عليه السلام

الحلقة الثانية - د. علي ابو عمرو

العودة إلى صفحة الرسالة

لعله من الصعب التصديق بان الديانة اليهودية قد تم زرع بذورها بعد، وليس قبل، وقت السيد المسيح مما استدعى قولنا ايضا بأن نشوء تلك الديانة وتطورها والاحساس بها على صعيد اجتماعي عالمي قد تم في المرحلة التاريخية التي تقع بين اواخر القرن الثاني واوائل القرن الثالث بعد الميلاد. ولكن ما لدى البشرية المعاصرة من وثائق ومدونات دينية وتاريخية وتراثية يكفي لازالة تلك الصعوبة كما يكفي لتوضيح الحقائق الساطعة وبكل وضوح ، ودعنا نبدأ بسرد بعض اهم المؤشرات التي قادتنا للبحث عن نشأة الديانة اليهودية بين وقت المسيح ووقت البعث المحمدي للاسلام.

1ـ القرآن الكريم: رغم اشارات القرآن الكريم المتعددة الى التوراة والى الانجيل كتنزيلين مقدسين جاء القرآن مصدقا لهما ومهيمنا عليهما ، والى انبياء التوراة والانجيل كصدّيقين مسلمين ، ورغم ازدحام الحديث النبوي وكتابات التراث العربية بالقصص التوراتية والانجيلية وتفاسيرها والتعليقات عليها وكأنها جزء لا يتجزأ من تراث العرب والمسلمين ، ورغم ان السيد المسيح وحوارييه هم في القرآن مسلمين ، فلا احد بين العرب والمسلمين اليوم يمكنه ان يقبل بسهولة الاستنتاج المنطقي الوحيد لتلك المعلومات بأن نشوء الديانة اليهودية جاء بعد ، وليس قبل، السيد المسيح . وربما ظن البعض ان شهادة القرآن الكريم على اسلام السيد المسيح وحوارييه لا يعني بالضرورة ان الدين كان قبلهم ، وفي عصرهم ، هو الاسلام ، ولكن ايات القرآن الكريم التي تشخص ذلك الدين ليست قليلة ولا غامضة ، ولا يمكن الان في هذا السياق حصر كل الايات القرآنية التي توضح بأن دين ابراهيم واسحاق واسماعيل ويعقوب (وهو اسرائيل) والاسباط (ومنهم يهوذا بالطبع) ودين سليمان وغيرهم من الانبياء والصديقين كان هو الاسلام ، فما اكثر تلك الايات القرآنية التي تصف ذلك الدين باسمه الحقيقي. وتصف انبياءه بشكل مباشر احيانا، وبشكل ضمني في احيان اخرى، بأنهم مسلمون وصديقون.

ومن المعروف للمسلمين وغيرهم ان نصوص القرآن الكريم هي اقرب نصوص الكتب السماوية الى مراحل التاريخ الواضح في ذاكرة البشرية. وقد عبر عن ذلك احد ابرز المستشرقين والعبرلوجيين وهو مؤرخ الاديان المذكور اعلاه جورج فوت مور بما ذكره عن اصالة نصوص القرآن الكريم التي لم يبرز اي تساؤل جدي بصددها ، وعن ان تلك النصوص هي اكثر نصوص الكتب السماوية الاخرى قربا الى ضوء المعارف التاريخية المعروفة للبشرية.

ومن الواضح في نصوص القرآن الكريم ان السيد المسيح وقبله يحيى عليهما السلام لم يأتيا بدين جديد ، وانما قد حملا لواء العودة (عن الضلال وراء الفريسيين) الى الاسلام . ولعل ايراد آية واحدة هنا يكفي لتوضيح ذلك الامر : "فلما احس عيسى منهم الكفر قال من انصاري الى الله قال الحواريون نحن انصار الله امنا بالله واشهد بأنا مسلمون" .

من الواضح ان الخلط بين يهود العربية المسلمة القديمة وبين اليهود من اتباع الديانة اليهودية من مختلف الامم قد وصل الى التفكير العربي والاسلامي ولم ينحصر في الامم الاخرى من غير العرب .

2ـ  "العهد الجديد" : لا شك ان نصوص "العهد الجديد" تحظى بأهمية خاصة بالنسبة لتحديد اللحظة التاريخية التي تم فيها زرع بذور الديانة اليهودية ، عبر حركة الانشقاق الفريسي في مدائن آسيا الصغرى التجارية . ومن غرائب الامور ان ذلك الحدث الكبير لم يُثر الكثير من الدراسات والتحقيقات حتى الآن ، مع انه ربما كان اكبر حدث في تاريخ الكنيسة البولسية ، وشغل بولس الشاغل ، كما استدعى ذلك الحدث تدخلات الحواري يوحنا كما ذكرنا اعلاه .

ولا يمكن لاي باحث موضوعي جدي يبحث عن نشأة اليهودية او عن جذورها بعد وقت السيد المسيح (استرشاداً بنصوص القرآن الكريم) الا يلاحظ في نصوص "العهد الجديد" قيام حركة انشقاق في الكنيسة تزعم انها تطالب المؤمنين من اتباع بولس في آسيا الصغرى بالعودة الى دين يهود . والاهم من ذلك ، او الاكثر دلالة ، هو صوت الحواري يوحنا ابن يهود ينطلق منذراً ومحذراً المؤمنين من مزاعم من قاد تلك الحركة باسم "يهود" .

لقد وثقت نصوص "العهد الجديد" ما قاله يوحنا مرتين بشكل مباشر واضح لا يقبل اي جدل ومراراً بشكل ضمني غير مباشر ولكن الاشارة فيه واضحة الى المرتدين وقد كشف كذبهم وزيف ادعائهم بأنهم يهود وهم ليسوا منها . فهل هناك علائم على زرع بذور الديانة اليهودية اوضح من تلك العلائم التي ما زالت موثقة في كتب "العهد الجديد" وقد جاء توثيقها اقرب ما يمكن الى زمن الحدث ومكانه ؟ وهل هناك قارئ لا يحس حرارة ذلك الحدث ونبضاته الحية بين السطور ؟ فإذا كان القرآن الكريم يدلنا في البحث عن منشأ الديانة اليهودية على وقت لاحق للسيد المسيح ، اذا كنا نجد، في اقرب الوثائق الى مرحلة السيد المسيح ، حركة تعلن انها تدعي "دين يهود" - وبغض النظر عن رفض اهل ذلك الدين لادعاء تلك الحركة .

واذا كنا نجد (في كتب "العهد الجديد" وفي مصادر لاحقة لها) ان تلك الحركة قد نجحت وتلقت الدعم الامبريالي (اولاً من روما ، وبعد ذلك من ايران الساسانية) فهل يبقى ادنى شك في ذهن الباحث ، بعد كل ذلك ، في ان زرع الديانة اليهودية كان فعلاً في ذلك الحدث ، في ذلك الانشقاق الفريسي داخل كنيسة بولس الهللينية ، في آسيا الصغرى ، وحول منتصف القرن الاول الميلادي .

ولا تقتصر اهمية كتب " العهد الجديد " بالنسبة لنشوء الديانة اليهودية اللاحق على مرحلة السيد المسيح على تغطية الحدث الذي تضمن زرع بذور تلك الديانة ، فالعهد الجديد يتضمن الاشارة الى السيد المسيح وقبله يحيى ( يوحنا المعمدان ) عليهما السلام لم يأتيا بدين جديد وانما دعيا الى العودة عن الضلال كما المحنا اعلاه تحت بند القرآن الكريم والاهم ان الاصل اليوناني لكتب العهد الجديد ما زال يحتفظ بالتعبيرات التي شخصها ابرز العلماء على انها عبرت عن اسم الدين التوراتي ، بل انها كانت التراجم اليونانية لاسم ذلك الدين كما ان العهد الجديد شأنه ان "العهد القديم" ( ما ندعوه هنا بالتوراة ) لم يرد فيه ذكر عن ديانة اسمها " اليهودية" ولهذا دلالته الكبرى ايضا ، فلو كانت الديانة اليهودية هي ديانة السيد المسيح او ديانة شعبه لحفلت نصوص العهد الجديد بذكر تلك الديانة .

3ـ  العهد القديم : ان نصوص العهد القديم العبرية ( ما نطلق عليه هنا التوراة ) قد كتبت كما هو معروف قبل وقت السيد المسيح ، ولو تواجدت الديانة اليهودية قبل وليس بعد ذلك الوقت لورد ذكرها كديانة في تلك التوراة ، الامر الذي لم يحدث باعتراف اعاظم علماء التوراة والعبرلوجيين بالذات مثل الاستاذ مور .

غير ان دلالة التوراة لهذا الامر بالذات (امر الدين ) هو في تشخيص التوراة لذلك الدين في نصوصها طولا وعرضا على انه الاسلام القديم سواء دعى اهل ذلك الدين في تلك النصوص بالصديقين او بالسالمين (صيغة جمع فاعل من سلم ) او بالامنين المؤمنين .

ان المخطوطات والنقوش القديمة سواء السومرية او الاوغارتية لم تشر الى ديانة قديمة اسمها اليهودية لكنها ، وهذا هو الاهم ، اشارت الى اسماء إلهية مشتقة من الجذرين صدْق وسلْم ، واذا اعتبرنا كذلك الاسماء الالهية في الكتابات المصرية المشتقة من جذر "أمن" يصبح بالامكان تحسس وجود مغرق في القدم ، وان كان بدائىا ، للدين العربي الذي وصل ذروته بالبعث المحمدي للاسلام .

4ـ الكتابات التلمودية : ان الكتابات التلمودية مع ذلك تتضمن شواهد لا وجود لمثلها في اي مصدر اخر ، ليس فقط عن الاصل الفريسي للديانة اليهودية ، وانما ايضا عن الفوارق الاتنية - اللغوية والدينية والحضارية عموما بين الفريسيين وتلامذتهم من الاحبار الاوائل لليهود وبين شعب يهود ، وهذا سيتوضح للقاريء ادناه .

ومن الواضح في نصوص القرآن الكريم ان السيد المسيح وقبله يحيى عليهما السلام لم يأتيا بدين جديد ، وانما قد حملا لواء العودة (عن الضلال وراء الفريسيين) الى الاسلام . ولعل ايراد آية واحدة هنا يكفي لتوضيح ذلك الامر : "فلما احس عيسى منهم الكفر قال من انصاري الى الله قال الحواريون نحن انصار الله امنا بالله واشهد بأنا مسلمون" .

من الواضح ان الخلط بين يهود العربية المسلمة القديمة وبين اليهود من اتباع الديانة اليهودية من مختلف الامم قد وصل الى التفكير العربي والاسلامي ولم ينحصر في الامم الاخرى من غير العرب .

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة

 

 

 

تصميم وإشرافسامي يوسف نوفل