تقرير/ جواد
ابو شمالة
للاسبوع السادس على التوالي
تتواصل الغارات الجوية التي يشنها حلف الناتو
بقيادة الولايات المتحدة الامريكية على القوات
الصربية في يوغوسلافيا وتتواصل معها صور المأساة
التي تحيق بالالبان المسلمين في كوسوفو وخارجها
واخر صور هذه المأساة اضطرار المسلمين داخل كوسوفو
لتناول طعام الكلاب والقطط بسبب نقص الغذاء الحاد
هناك ، والعالم المتحضر -الذي يدعي انه يدافع عن
القيم في العالم - يتفرج ولا يفكر سوى بمصالحه
الخاصة.
تخلل هذا الاسبوع تطور هام على
صعيد الحرب في البلقان وانعكاساتها على الالبان
المسلمين في كوسوفو كما ان له اهمية خاصة بمستقبل
العالم بشكل عام والشرق الاوسط خاصة، فالقمة التي
عقدت هذا الاسبوع في واشنطن وضمت الدول الاعضاء في
حلف الناتو واستمرت ثلاثة ايام تمخض عنها قرارات
واستراتيجيات هامة على الصعيدين الدولي والاوروبي
اضافة الى الحرب في البلقان واهم هذه القرارات
استبعاد الخيار البري في الحرب ضد الصرب والاكتفاء
باستمرار الغارات الجوية والضغط الاقتصادي على
يوغسلافيا مثل تجميد اموالها الخارجية والحظر
النفطي عليها بما في ذلك روسيا ، كما تم الاتفاق على
استراتيجية تقضي بالحفاظ على الهوية الامنية
والدفاعية الاوروبية وعلى مهمتين جديدتين اضيفتا
للحلف وهما ادارة الازمات وتعزيز الشراكة ، وقد
سمحت هذه الاستراتيجية للحلف بالعمل خارج حدوده
الاقليمية وضد كل ما يهدد امن اعضائه سواء بموافقة
الامم المتحدة او دون موافقتها ! كما تمخض عن القمة
تطور مهم تمثل بضم تسع دول جديدة للحلف وهي رومانيا
وسلوفينيا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبلغاريا
وسلوفاكيا ومقدونيا والبانيا.
اما فيما يتعلق بقرار استبعاد
الحرب البرية على الصرب والذي عبر عنه كلنتون بقوله
"لن نتورط في فيتنام جديدة" ولكن هذا الامر لا
يعكس فقط الرغبة الامريكية ، بل ان العديد من دول
الحلف ترفض شن حرب برية وتود الاكتفاء بشن هجمات
جوية حتى ولو استمرت مدة طويلة.
ان قرار الحلف باستبعاد القوات
البرية من المعادلة الحربية في البلقان سيؤدي حتما
الى انتصار الارادة الصربية القومية المتطرفة
متمثلا بالاحتفاظ باقليم كوسوفو مفرغا من الالبان
حتى لو نتج عن ذلك تدمير صربيا ، هذا القرار يعني ان
الناتو حريص على "تجنب الهزيمة" اكثر من حرصه
على تحقيق النصر وذلك بعدما تفاجأ الحلف من الصمود
غير المتوقع الذي يبديه الرئيس الصربي ميلوسوفيتش
وان استراتيجية واشنطن ارتكزت اساسا على عدم دفع
تكاليف الحرب خصوصا من الناحية البشرية اي ان الحلف
يريد الفوز وتحقيق الانتصار بأقل التكاليف اي دون
حسم عسكري بري يجبر القوات الصربية على الجلاء عن
كوسوفو ودخول القوات الاطلسية محلها.
لقد بات واضحا للجميع ان
استقلال كوسوفو ليس هدفا لحلف الناتو او واشنطن ولم
يكن كذلك من الاساس ، ولو كان كذلك لشنت حربا برية
لانها تفيد في انكشاف العدو وبضربها يحول بينها
وبين اجلاء المدنيين الالبان وتهجيرهم وتمنعها من
بلوغ غايتها السياسية والعسكرية وهي التطهير
العرقي والاستيلاء على الارض بدون السكان.
وان اهدافا بعيدة هي التي دفعته
للقيام بهذه الحرب وهي لم تعد خافية على احد ، ان
كبح جماح ميلوسوفيتش -الذي تعني كوسوفو بالنسبة له
ما تعنيه القدس بالنسبة لليهود - يجب ان يكون من
اولى اولويات حلف الناتو وهذا الامر لن يحدث دون
القيام بحرب برية ، وان قرار الحلف باستبعاد هذه
الحرب سيجعل امال الصرب بالنصر ماثلة امام عيونهم
وهو ما سيدفع للاستمرار في تعنتهم والضغط على
الالبان للهجرة والتشرد.
يبدو ان الولايات المتحدة تريد
اعتماد خيارات اخرى مثل استمرار الحرب الجوية
والضغط الاقتصادي والحظر النفطي وغير ذلك ولكن
تطبيق هذه الخيارات لم ينجح في امثلة كثيرة من
العالم وكان اخرها في العراق حيث بقي النظام
العراقي على رأس السلطة فيها، لذلك فإن ميلوسوفيتش
يراهن على الصمود واجبار الغرب على خوض حرب برية لا
يرغب فيها مما سيخلق الاضطراب السياسي الدولي
عموما وداخل دول الحلف بشكل خاص حيث ان دولا مثل
ايطاليا واليونان ترفض التدخل البري وفرنسا مترددة
حتى في الحظر على النفط.
لذلك فإن الحلف وقع في مأزق
حقيقي فهو من جهة لم يستطع حسم الموضوع في وقت قصير -
كما كان يتصور -وهو لا يستطيع الاستمرار الى ما لا
نهاية في حرب جوية لا تؤدي الا الى المزيد من الدمار
والتشريد وتخشى التورط في حرب برية لها مخاطر
وعواقب جسيمة قد تفوق طاقتها وتصورها، وفي الجانب
الصربي كذلك فإن ميلوسوفيتش في مأزق لا يقل خطورة
عن المأزق الاطلسي، فالبنية التحتية لبلاده يجري
تدميرها والاقتصاد يزداد سوءاً والمعارضون له
ولسياساته يزدادون.
ان هذه الحالة من اللانصر
واللاهزيمة قد تدفع الطرفين الى القبول بحل
دبلوماسي لا ينظر من خلاله ان احد الاطراف قد هزم
والمرشح للعب هذا الدور هو روسيا التي لها علاقات
مع جميع اطراف الازمة كما ان من مصلحتها حل الازمة
سلمياً خشية التورط في الحرب اذا ما اقبل الناتو
على شن حرب برية مما سيزيد من مشاكل روسيا
الاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية ، ولكن
هذا السيناريو ان حدث سيكون قطعاً على حساب اقليم
كوسوفو والالبان المسلمين الذين سيحصلون على الحد
الادنى لطموحاتهم ويعتقد ان الاسابيع القليلة
القادمة ستحسم هذا الخيار ان لم يحدث تطورات جديدة
تغير من الخيارات المطروحة .
اما التطور الآخر الهام لما
تمخضت عنه قمة حلف الناتو في واشنطن هو الاتفاق على
استراتيجية تقبل بالعمل خارج حدود دول الحلف
الاقليمية في اي مكان بالعالم يهدد امن اعضاء الحلف
ودون الرجوع للامم المتحدة اي ان نموذج "كوسوفو"
اصبح نقطة التحول الاستراتيجية لعمل حلف الناتو
بعد خمسين عاماً على تأسيسه واستعدادا للقرن
الحادي والعشرين وهو ما عبر عنه طوني بلير رئيس
الوزراء البريطاني بقوله "ارى ان النزاع في
كوسوفو نظام عالمي جديد" !!
وهذا الامر يعتبر خطيراً جداً
على مستقبل العلاقات الدولية التي من المتوقع الا
تكون متوازنة واحادية القطبية ، وهو ما سينعكس
بالدرجة الاولى على دول الشرق الاوسط خاصة الدول
العربية والاسلامية منها وهناك امثلة كثيرة قد
تحضر لها بحجج "اخلاقية" كما تفعل في كوسوفو .
مثال ذلك ايران قد تأتي لها بحجة الجزر المختلف
عليها مع الامارات ومصر اذا طالب الاقباط
بالاستقلال او سوريا بضربها عن طريق تركيا لتحقيق
المصالح الاسرائيلية . اما اسرائيل وهي صنيعة دول
الحلف ستكون بعيدة عن هذه الاستراتيجية القادمة ،
بل انها ربما ستكون احد اطراف تفعيلها ولو بشكل خفي
.