من شوارع الوطن

بقلم : صلاح البردويل

العودة إلى صفحة الرسالة

 

كوسوفو في عين محمد

حسب قاموس الصغار الاغورة تساوي الفا .. ولهذا قتل محمد نفسه صراخا حتى ينتزع الالف من امه التي بدورها ارهقها الصراخ وهي تحاول عبثا ان تلملم اطفالها السبعة من اجل ان تدعك اجسادهم التي اثقلها وسخ الحياة ، اليوم الجمعة ... محمد هو اوسط اخوته ... ابن السادسة كان الاكثر دلالا على والده الذي ناداه جانبا ووضع في يده الالف شرط ان لا تدري شماله بما غنمت يمينه ... اخذها وهو ينظر بحب شديد الى عيون والده التي عبأها الحزن .. واذبلها الفقر ... لا ارض... ولا مال... ولا عمل .. ولا حتى الناس ... غرفة واحدة لتسعة افراد لكن لا بأس ، فان الفرج آت ... من يدري لعلّ الدولة تقوم ... او القيامة تقوم .. لابد ان تكون هناك نهاية لهذا الموت البطيء ...

مع السلامة يا محمد ... خليّ بالك من السيارات المسعورة .. لا تتلفت كثيرا يا عيني ... الى المسجد مباشرة ... يحميك الله .. صلّ .. واشتر لنفسك حبة حلو وكلها بعيدا عن اخوتك حتى لا يكيدوا لك كيدا ... مع السلامة .
ضم محمد الالف بيده وهو متجه لصلاة الجمعة يقلب خياله الصغير ... ماذا سأشتري ؟ وهل تطيق نفسي ان آكلها وحدي ؟ وكاد من فرط تفكيره ان يتعثر بقدم الرجل التخين صاحب السيارة الفخمة والبيت الجميل الذي كان يشرب الارجيلة على الرصيف نافخا كرشه ومادّاً رجله .. ومع اول صفعة على رقبته سقط الالف بالقرب من الارجيلة فكان الم سقوطه اكثر من الم سقوط الكف السمينة على الرقبة ، لذا لم تمنعه صفعة ثانية من ان يقاوم حتى يستعيد الفه .. وانطلق الى المسجد دموعه على خده ويداه ترتجفان .. خطوة الى الامام يا محمد .. المسجد مكتظ بالناس .. لا مكان للصغار في السطور الاولى .. ولكن لا بأس فكل ارض الله مسجد ... صلى ركعتين ... جلس في خشوع يقلب الالف بين اصابعه ... يتأمل فيها خارطة اسرائىل الكبرى التي يسميها ملك .. ويتأمل على الوجه الاخر للعملة الرقم الصعب الذي بيده مصير الصغار .. يتمنى لو ينشرخ الوجه عن الوجه الاخر لتتعدد في يده الفلوس ويطعم اخوته كما يأكل...
ارتج محمد لصوت الميكرفون الذي فاجأه قبل موعد الأذان ، شاب ملتح يتكلم بانفعال : اعراضكم في كوسوفو ايها المسلمون تنتهك .. اطفالكم يموتون جوعا .. شبابكم يذبحون امام اعينكم ... ماذا تفعلون ؟ ماذا تنتظرون ؟ الا تتقدمون ؟ تقدموا ... اغيثوهم .. قدموا لانفسكم .. فرجوا الكربة عنهم ... خففوا من احزانهم ... تبرعوا لاخوانكم يا مسلمون ... زكوا اموالكم .. الا تحبون الجنة ؟! ... نهض محمد واقفا ليتمكن من رؤية الشاب بعدما اختفى وراء والعبايات الفخمة ... كانت الكلمات تهز عظامه الصغيرة ... تقدم .. تحملّ النهر والضرب من الكبار ... تقدم حتى وصل الصف الاول ... فتح كفّه .. نظر الى الالف .. بلع ريقه .. ضمها بكفه مرة اخرى ... تقدم ... وضعها في كيس النايلون الذي يحمله الشاب ... وعاد الى حيث كان ... وفي طريق عودته الى صفه كان يواجه الوجوه العابسة التي لا يعجبها تخطي الصغار للصفوف وقد ضمت الايدي الى الاعناق ... والده الذي رآه عائدا شده من يده .. اجلسه في حضنه ضمه الى صدره .. بكي بفرح وهو ينظر الى عينيه اللتين اغرورقتا بدموع وصور.

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة

 

 

 

تصميم وإشرافسامي يوسف نوفل