من شوارع الوطن

بقلم : صلاح البردويل

العودة إلى صفحة الرسالة

 

آه .. آه يازمن

الله اكبر !! من اين تعلمتم كل هذا الجحود ؟! والله انكم تستحقون قطع الرؤوس يا جبناء!!

انفلتت الكلمات من لسان الاستاذ ابراهيم وقد صعقه المنظر حينما تعرف على كومة من حطام امرأة عجوز تلبس شطوتها على رأسها وثوبها الخلق على جسدها النحيل وتتوارى خلف كفّها المسحوت من شعاع الشمس محتضنة بالكف الاخر رغيفا من الخبز وفي حجرها تبعثرت اوراق وعيدان واشياء اخرى جمعتها اثناء رحلتها من غرفتها المدمرة في قلب المخيم الى باب الجامع تجرها طفلة يتيمة من بنات جارتها.

الاستاذ ابراهيم ما يزال يتذكر جيدا ام العبد.. جارتهم القديمة ، لقد عرفها طيلة عمرها ارملة يتصدق عليها الجيران في رمضان وفي الاعياد.. عرف دجاجاتها التي كانت تحوم على المزبلة الملاصقة لبيتها.. لتبيض هناك.. عرفها وهي تطارد الاطفال الذين يسرقون البيض.. وتسترده منهم.. تحوّشه .. تبيعه .. تضع القرش على القرش .. تربي ولدها العبد .. تكبّره .. تعلمه .. عرفها وهي تودع وحيدها مسافرا الى الجامعة في مصر مع كل تحويشة عمرها .. حيث تؤمن ان عمرها لا ينفك عن فلذة كبدها وحيدها العبد الذي غابت علومه عشرات السنين.

بينما كان الاستاذ ابراهيم ينادي اسماء تلاميذه لفت نظره اسم ابن العبد .. اقترب منه ليتأكد من حدوث ما لم يخطر بباله .. نعم انني ابنه .. وان جدتي العجوز تسكن عندنا .. وابي يعمل محاسبا كبيرا وامي كذلك.. وكان الاستاذ ابراهيم في كل يوم يحمّل تلميذه سلاماته وذكرياته الدافئة الى جدته والى ابيه ، اما امّه فلا يعرف لها اصلا.. وكان التلميذ يحمل السلامات .. ولكن لمن ؟! سأله الاستاذ ابراهيم يوما : وكيف صحتها جدتك؟ هل مازالت تقوم وتقعد وتربي الدجاج؟ ام ان الوضع في البيت لا يسمح بتربية الدجاج؟ قال: الوضع لا يسمح . قال الاستاذ : طبعا لن يسمح حيث السجاد والفرش، قال الولد: لا .. غرفة جدتي لم تعد تتسع للدجاج ، قال الاستاذ : ولماذا لا تربيه في الحوش؟ قال: باعه ابي ، ردّ الاستاذ : آ.. تقصد انها تعيش معكم في البيت الجديد، تلعثم الولد ولم يجب ودارت الايام. اتعرفيني يا ام العبد؟! اتعرفين ابراهيم؟! اتعرفينه جارك القديم..؟! كانت الدموع تتساقط من عيونه وهو يحاول عبثا اختراق اصابع يدها النحيفة الى عينيها في محاولة اكثر عبثا للوصول الى تلافيف ذاكرتها!!
وعندما هبط بجسده وروحه الى جوارها حدثته الطفلة اليتيمة عن قصة ولدها الوحيد الذي عاد من الخليج بالاموال الطائلة ليستكثر على امه بيتها ويبيعه مستبقيا لها غرفة صغيرة قديمة لم تكن مستخدمة على طرف البيت من اجل ان يشتري لزوجته سيارة حديثة!! ، كانوا في البداية يفتقدونها بصحن الطبيخ وعندما رفضت ان تعطيهم ما جمعته من الشحدة والزكاة قاطعوها تماما لانهم يظنون انها غنية جدا وان ما معها يكفي لشراء تذاكر سفر الى اليونان!!

قال الاستاذ وهو يبكي : وكم معها ؟ اخرجت الطفلة الكيس من عبّ العجوز وفيه بعض الشواقل وقالت : معنا ستر الله يا استاذ .. وآه .. آه يا زمن (عذرا لانقطاع الارسال بسبب خلل نفسي).

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة