من شوارع الوطن

بقلم : صلاح البردويل

العودة إلى صفحة الرسالة


حسكل يتاجر بالحساسين

زينة وعند القول زينة تعرفها كل نساء الحارة ، فارعة الطول باسمة الخلقة، اصيلة في عطائها .. اصيلة في اخلاقها .. لولا هذا البلاء الذي اصابها في اخر الزمان حينما اصيبت في ظهرها برصاصة وهي تدافع عن طفلها الذي، رغم الشلل الذي اصابها، لم ترحمه رصاصات اليهود التي اخترقت قلبه الصغير فتضرج بدمه بين يديها مضيفا الى حسرتها في نصفها حسرة في روحها وفلذة كبدها.

صورة حسام الشهيد، الذي ما زال صغيرا، معلقة على الجدار امامها الى جانب صورة الشهيد يحيى عياش ويفصل بين الصورتين وبين خارطة باهتة لفلسطين معلقة على نفس الجدار قفص معلق تنوح فيه الحساسين التي اصطادها زوجها حسكل المبيوع.

حسكل ، هذا هو الاسم الذي اطلقه عليه اهل الحارة لانهم لا يعرفونه الا برفقة معلّمه حسكل منذ اكثر من عشرين عاما.. رغم ان اسمه الحقيقي ليس اجمل بكثير من هذا الاسم فقد اسمته امه -خوفا عليه من الحسد- "طافش".

جلست زينة جلستها الابدية امام الصور وحولها ابنتها الكبيرة "رحيمة" واخوتها ، تفكر في العيد : بماذا سنعيد يا اولاد ؟ .. وحاولت "رحيمة" ان تخفف عن والدتها هذا الهم : لايهم يا امي .. عيدنا في قلوبنا وليس في ملابسنا .. عيدنا ان نرى ابتسامتك تعود تملأ البيت ..وكانت دموعها تتساقط : والله يا اولادي لو كان بيدي لصنعت لكم من الرمل ومن الزلط عيدا ولنسجت لكم من جلدي ملابس .. ولكن العين بصيرة .. وها هو ابوكم يظن انه ببيع الحساسين يصنع لكم عيدا .. هيهات فهي تجارة خاسرة ، كان طافش قد استطاع ان يحصل على رخصة خاصة يسمح له بموجبها صيد العصافير على الحدود .. وهناك و على مقربة من قبر الشهيد يحيى عياش نصب شباكه ليصطاد العصافير المسافرة الى عمق الوطن .. هناك كان يجمع الحساسين ويبيعها برخص التراب ليعود عابسا الى بيته وقد انفق ما جمعه على شرب السجائر.

"اه يا طافش .. الى متى سيستمر هذا الحال .. المعلم ابن الكلب ادار ظهره لك ولم يجدد لك التصريح الى ان تتم الانتخابات !!" فقد انهمك حسكل الاصلي في العمل الخاص بالدعاية الانتخابية في اسرائيل ولم يعر انتباها لصاحبه طافش الذي يسلي وقته بصيد العصافير الحلوة المرّة.

عاد طافش في المساء ليجد زوجته واولاده وقد تكوموا تحت ضوء خافت ينعكس في عيونهم الدامعة.. وقد تثاقلت الكلمات في الحلوق وامتد العطش الى القلوب وتألقت على الجدار صورة الشهداء، وكان ظل القفص المعلق يمزق خطوط الخارطة المعلقة بجانبه ، فيما يزداد صوت العصافير انفجارا في الصمت..

"ما هذا ؟ من الذي مات منكم؟ غدا ستفرج .. حياتنا معلقة بحسكل ! ماذا افعل لكم؟! وها انا اطقطق على العصافير حتى يأتينا الفرج وادعو الله ان ينجح حسكل لانه سيعطينا هدية محترمة .. يارب .." ادارت زينة المشلولة رأسها ببطء ونظرت الى وجه طافش .. ومرّت لحظات قبل ان تستطيع جمع بعض الكلمات التي تتجاوز بها يأسها منه ومن تفكيره قالت: "انت الذي مت يا طافش .. ولهذا يخيم الحزن علينا" ، قال ساخرا: "متى ؟ لماذا لم تبلغوني ؟".

قالت : "منذ تعلقت بغير الله ونسيتنا" ، ثم تناولت عكازا بجانبها ورفعته ضاربة القفص لينكسر ويخرج منه العصفور وتبرز خطوط الخارطة اكثر وضوحا.

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة