ميلوسفيتش ... هتلر صغير يهوى العيش وسط الدم والكراهية

 

العودة إلى صفحة الرسالة

"ليس مجنوناً فحسب .. بل هو نتن أيضاً"

ميلوسوفيتش .. هتلر صغير يهوى العيش وسط الدم والكراهية

لندن - قدس برس

في كلية الحقوق بجامعة بلغراد ، وقف الشاب سلوبودان ميلوسوفيتش وإلى جانبه عشيقته أمام صورة كبيرة للزعيم اليوغسلافي الراحل جوزيب بروز تيتو (1892 - 1980) ، وبينما كان الاثنان يتأملان صورة الزعيم التاريخي ليوغسلافيا الشيوعية آنذاك التفتت ميرجانا لتقول لعشيقها "ميلو" "صورتك ستحل مكانها يوما ما" .. لم تُحدث العبارة دهشة في نفس الشاب الطموح ، فقد كانت تعبر عن شعور متقد يسكن كيان إنسان لم يجد ذاته في الماركسية اللينينية ، بقدر ما وجدها في "القومية الصربية".

بعد أعوام طويلة .. وبالتحديد في عام 1989 تمكن سلوبودان ميلوسوفيتش من الفوز برئاسة جمهورية صربيا العمود الفقري ليوغسلافيا السابقة ، وحتى ذلك الحين كان رجلاً مغموراً على الصعيد الشعبي ، غير أن رفاقه في الحزب الشيوعي اليوغسلافي كانوا يرون فيه شخصاً كريهاً وأنانياً ، إذ يقول عنه ستامبوليك أحد أبرز مساعدي الرئيس السابق جوزيب تيتو ، والذي ساعد ميلو في الوصول إلى السلطة ، قبل أن يبعده الأخير ويزيحه من مناصبه "ميلو ليس رجلاً مجنوناً ، إلا أنه يركب حصاناً جامحاً لا يعرف أحد إلى أين يوصله" ، بيد أن زعيماً طالبياً بارزاً في بلغراد يعارض سياسات الرئيس الصربي قال عنه في عام 1993 "حالما تجلس إلى ميلوسوفيتش تفهم أن أمامك رجلا مجنونا ، أما عندما تهم بمصافحته وقت انصرافك وتمسك بيده اللينة .. فإنك تدرك أنه ليس مجنوناً فحسب ، وإنما هو نتن أيضاً".

لقد أيد الشعب الصربي ميلوسوفيتش ليكون زعيماً عليهم في لحظة من فقدان الوعي بالواقع ، وكان الصرب يعتقدون أن عليهم أن ينتخبوا زعيماً يعيد إليهم أمجاد الصرب الغابرة ، غير أنه بعد سنوات من تربعه على عرش صربيا ، فان دائرة المعارضة الكامنة ضده آخذة في الاتساع ، بالرغم من الانحياز العلني الذي بدأه قادة في المعارضة السياسية الى جانب "رجل بلغراد القوي" كما يوصف في الأدبيات الغربية.

ويقول الأديب الصربي ميركوكوفاتشي الذي اضطر الى العيش في كرواتيا ليهرب من "جحيمه" "إن ميلوسوفيتش عقوبة حقيقية للشعب الصربي بعد أن بلغ المجتمع أدنى مستوى له ، أما نحن الذين فهمنا وعرفنا أن هناك شراً ، فلا نحس الآن برضى لصحة وجهة نظرنا ، وإنما نحس بوجوم ، لقد كنا ندرك أن ظاهرة مثل ميلوسوفيتش يمكن أن تخرج من الظلام ، ولكننا لم نكن نصدق أنه يمكن أن يحصل على هذا العدد من الاتباع ، إنه يفهم "الحرب" كنوع من النظام الاجتماعي للصرب الذين يخسرون في السلام ويكسبون في الحرب على حد قوله".

ويعيد كثير من علماء النفس والاجتماع الذين حاولوا دراسة شخصية ميلوسوفيتش ، الجوانب القاتمة والمظلمة في بنائه الداخلي النفسي والروحي ، إلى حياته العائلية المضطربة ، فوالده كاهن أرثوذكسي من مونتنيغرو (جمهورية الجبل الأسود) هجر عائلته عندما كان ابنه ميلو قد بلغ مرحلة الوعي ، وبدأ يفقه معنى المشاحنات التي تحصل بين والديه ، وبعد دخول والدة ميلو الحزب الشيوعي انتحر والده بإطلاق الرصاص على نفسه عام 1962 ، وفي عام 1974 انتحرت والدته بشنق نفسها أيضا ، وقد خلفت هذه الحياة الاجتماعية أثراً سيئاً للغاية في حياة الزعيم الصربي الذي تزوج من عشيقة سابقة له هي ميرجانا ماركوفيتش ، بعد ان ارتبط معها بعلاقة غرامية مثيرة أثناء دراستهما القانون في جامعة بلغراد ، وذكرت مجلة /تايم/ الأمريكية قبل أعوام ان ميلوسوفيتش الذي يقضي جزءاً من وقته مخموراً لإفراطه في شرب الويسكي يخضع لتأثير كبير من جانب زوجته التي اشتهرت بصفتها مفكرة شيوعية وأستاذة في علم الاجتماع ، ويصفها المقربون بأنها "الرئيس الفعلي لصربيا" ، ويقول أحد رفاق ميلو القدامى إن "الشخص الوحيد الذي يعرف ما يدور في عقل ميلوسوفيتش هي زوجته ميرجانا التي يحبها ويثق بها" ، غير أن المأزق ذاته الذي عاشه الزعيم الصربي أثناء طفولته ، عاشته زوجته ، فقد كانت والدة ميرجانا شيوعية أيضاً ، وأُعدمت إبان احتدام الحرب الأهلية في البلاد قبل انتصار الشيوعيين ، وتقول زميلة سابقة لميرجانا "إنها امرأة تعيش الخوف والاضطراب ، وتخشى أن تواجه المصير الذي آلت إليه السيدة تشاوشيسكو (زوجة دكتاتور رومانيا السابق نيقولاي تشاوشيسكو) ، وتدرك تماماً أنْ لا تراجع عن طريق الدم .. وسلوبو هو الشرير".

وعن أثر حياة ميلوسوفيتش العائلية على منهجه في التفكير ، يقول الدكتور مرادف كولينوفيتش مدير مشفى الأمراض النفسية في زغرب (عاصمة كرواتيا) إنه "بعد انتحار والدي ميلوسوفيتش ، بحث الاخير عن فكرة بديلة تملأ حياته ، تماماً مثل هتلر وموسوليني ، وكانت الفكرة جاهزة .. وهي صربيا الكبرى" ، ويضيف "إنه يتميز بالحب المفرط لنفسه ، ويكفي أن تنظر إلى حركاته وطريقة مشيه لتتأكد من ذلك ، ويتميز أيضاً بطبيعة عدوانية شديدة وبكراهية لكل ما هو غير صربي ، وبتطلعه الشديد إلى السلطة والقوة".

ويعتقد الدكتور كولينوفيتش أن ذلك يعود إلى ما بذره والده في نفسه قبل انتحاره ، ويورد حادثة لها دلالة بالغة ، ففي المدرسة التي كان يعمل فيها والد ميلو كان هناك أيضاً مدرس من بيئة مسلمة في يوغسلافيا يدرس التاريخ ، وكان يلاحظ أنه كلما دخل هذا المسلم حجرة المدرسين الخاصة ، خرج منها على الفور ميلوسوفيتش الأب ، وأثار ذلك انتباه العديدين ، ما دفعهم الى السؤال عن السبب ، فأجاب "لا أطيق أن أرى مسلماً أو أسمعه يدرس التاريخ الصربي" ، ويقول محلل سياسي كرواتي إنه "بالنسبة لميلوسوفيتش فإن صربيا الكبرى معناها ميلوسوفيتش الأكبر ، وصربيا في مفهومه كلمة مرادفة ليوغسلافيا ، لأن الصرب هم الشعب المختار".

ويعتقد عدد متزايد من المثقفين والعلماء في بلغراد أن بلادهم تسير نحو الهاوية ، إذا ما استمر ميلوسوفيتش يمسك بزمام السلطة ، ومعه جمهرة من الأتباع المتعصبين ، وجلّهم أعضاء سابقون في الحزب الشيوعي اليوغسلافي ، غير أنهم تحولوا اليوم ليصبحوا من أشد أنصار الفكرة القومية التي تنادي بصربيا الكبرى ، واعتماد سياسة التطهير العرقي ضد القوميات الأخرى ، وهو ما حدث في البوسنة والهرسك وكرواتيا ، ويحدث اليوم في كوسوفا.

ويرى رئيس بلدية بلغراد السابق يوغدان يوغدانوفيتش أنه "ليس سرا القول إن النمط السيكولوجي لميلوسوفيتش هو نمط تدمير النفس والانتحار ، على أنه ينقل رغبته الجنونية هذه في الانتحار إلى شعبه كله ، ولن يختفي ميلوسوفيتش عن المسرح إلا إذا اختفى من الوجود" ، بينما يقول عالم النفس يوسيب بريكودرافاتس "يمكن تشبيه تصرفات ميلوسوفيتش بتصرفات ستالين في أعوامه الأخيرة ، حيث كان يحيط به حراسه الشخصيون فقط ، إلا أن هناك فرقاً بينهما ، فستالين كان يستمتع بالأكل ويقيم الولائم ، فيما حرم ميلوسوفيتش نفسه من كل أنواع المتعة".

أما عالم النفس الصربي ستيفان بيتروفيتش فيقول "إن شخصيته تتميز بالبرودة العاطفية وحبه الكبير لنفسه ، وصلته الضعيفة بالواقع ، وعجزه عن إقامة اتصالات اجتماعية إلى الحد الذي تبلغ فيه أحياناً حدود العزلة التامة عن الناس ، وهو يفتقد مشاعر الإحساس بالخجل أو الندم أو تأنيب الضمير" ، ويضيف "إنه رجل سيئ المزاج دائماً ومتوتر نفسياً ومتعصب ، ويحاول إخفاء ذلك بالموقف المتكبر والمتعجرف من الأحداث ، ويشتد تكبره إذا ما حاول أحد معارضته ، ولا ينظر ميلوسوفيتش في عيون الناس وهو يتحدث إليهم ، ونادراً ما يبتسم ، وحتى ذلك يكون بصورة اصطناعية".

وأبرز ما يلاحظ على الزعيم الصربي محاولته إخفاء مقاطع هامة من تاريخه الشخصي ، ولا سيما تلك الفترة التي عمل خلالها مخبراً للمخابرات الشيوعية في الستينيات ، والتي يعتقد أنها كانت أحد عوامل بروزه داخل الحزب الشيوعي في الثمانينيات ، إلى جانب إخفائه لحياته العائلية التي اتسمت بالاضطراب ، ومنذ أن أصبح رئيساً قبل عشرة أعوام على جناح العنصرية العرقية ، تحول ميلوسوفيتش (58 عاماً) إلى رأسمالي وقح في ثياب محارب قديم ، وسكن في أفخم أحياء العاصمة بلغراد ، حيث أقام لنفسه قلعة حصينة في شارع تولستوي ، يحيط بها الحراس المدججون بالسلاح من كل جانب ، ويلفّ قصره سياج بعلو عشرة أمتار مضاد للقذائف ، ويحوي القصر كافة أشكال الترفيه ، بينما كان ابناه ماركو (25 عاماً) وماريجا (36 عاماً) يتجولان بسيارات الجيب الأمريكية دون شعور بالمأساة التي يعيشها بقية أفراد الشعب ، ويتذكر بعض سكان بلغراد بأسى ميلوسوفيتش المحارب الشيوعي الذي كان يقطن في شقة متواضعة في أحد أحياء العاصمة ، بينما يقود سيارته الهزيلة من نوع "زاستافا" في شوارعها ، ولكن ميلوسوفيتش الزعيم شيء آخر اليوم .. لا يراه الناس ، ولا يتجول في أحياء عاصمتهم الشاحبة ، التي تتحول الآن الى ألسنة من اللهب.

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة