فقيه الأحناف .. وشمعون بيرس .. حديث عن الإبداع وتلميع الأحذية

 

العودة إلى صفحة الرسالة

صالح النعامي

كان ذلك في صيف العام 1984، كنت اعمل في احدى ورشات البناء والتي تطل على الميدان الرئيسي لمدينة "رعنانا" الواقعة الى الشمال من مدينة "تل ابيب" ، في هذه الفترة كانت "اسرائيل" تعيش حملة انتخابية حامية الوطيس ، فجأة فإذا بنا نسمع جلبة وضجيجاً ينبعثان من الساحة المقابلة ، وعندما استطلعت الامر فإذا بمجموعة من الصبية اليهود يقومون بالقاء الطماطم والبيض الفاسد على تجمع انتخابي عقد في المكان وكان يشارك فيه شمعون بيرس رئيس حزب العمل الاسرائيلي في ذلك الوقت . لم تحاول الشرطة الاسرائيلية قمع هؤلاء الصبية الذين بالغوا في الاساءة لواحد من اكثر الساسة اليهود مساهمة في نهضة الدولة العبرية ، انفض الاجتماع وقد اكتسى قميص بيرس الابيض طبقة حمراء اللون اثر قذفه بالطماطم .

قبل اسبوعين وبعد 15 عاماً على هذه الحادثة شاءت الاقدار ان استمع صدفة لمقابلة تلفزيونية تطرق فيها بيرس لما شاهدته عيناي ، يقول بيرس "اصارحكم القول لقد كان هناك قدر من الاذى الشخصي والاهانة في ذلك ، لكنني في نفس الوقت فخور انني انتمي الى بلد تقوم صبيته بقذف رأس الدولة دون ان يخشوا مغبة افعالهم ، يجب الا ننسى دوماً ان الحرية التي تمنحها الديمقراطية هي التي تفجر مكامن الابداع لدى النشء الاسرائيلي ، وان الانظمة الشمولية التي تعتمد القمع هي التي تحرم الامم والشعوب من عوائد ابداع ابنائها وبالتالي تكون مسؤولة عن تخلف دولها عن ركب النهضة والتقدم"، ويحضرني هنا ما حذر منه حفيد اسحاق رابين بعدما تعالت بعض الاصوات الداعية لمراجعة القوانين التي تسمح للاقليات المتطرفة باستغلال هامش الحرية ، اذ يقول "ويل لنا اذا انسقنا الى العواطف وتخلينا عن القيم الديمقراطية التي تمنح وتضمن الحرية والعدل ، فعندها بماذا سنختلف عن جاراتنا دول التخلف !!!" ...

عالم الاجتماع الفرنسي "ميتان توردوف" وفي دراسة له حول تأثير القمع على شخصية الفرد ، يربط بين قمع الانظمة الاستبدادية واستفحال الشعور بالدونية لدى ابناء شعوبها ، ويؤكد ان القمع يستخدم لتعميق ميل الافراد نحو مطاوعة الحاكم ... لا اساس اطلاقاً لدعاوى البعض التي تربط بين الاسلام وبين جنوح الشعوب الاسلامية نحو الانقياد خلف الحكام ، بل ان الاسلام ذهب الى ابعد حد في حرصه على توفير الحرية كأساس هام في تأمين ظروف طبيعية لانطلاق كوامن الابداع لدى الفرد المسلم ... يذكر الفقيه الحنفي الكبير ابن عابدين في حاشيته "انه اذا اختلف اثنان على طفل، احدهما مسلم يدعي ان هذا الطفل عبد له ، والآخر من اهل الذمة يدعي انه ابن له ، فإن القاضي يحكم لغير المسلم ، لان تنشئة الطفل على الحرية وان كانت في غير الاسلام ، ارجح من تنشئته على العبودية في ظل الاسلام ، طبعاً هذا من منطلق تقديم حق العبد على حق الشرع . وما اعظم ما قاله الشيخ محمد الغزالي عندما ربط بين الحرية والتمكين في الارض ، يقول "اذا كان المرء في زماننا يبيت في مدن ، كانت عواصم الخلافة الاسلامية ، غير آمن على ماله ودمه ويبيت في لندن او باريس وواشنطن مستريح الطرف والقلب ، فمن يعطيه ربك قيادة الانسانية ويقر الامور في يده !!" ، ويقول ابن تيمية "الدنيا تدوم مع العدل والكفر ، ولا تدوم مع الظلم والاسلام" ... كيف ننتظر اسهاماً للشباب العربي والمسلم عندما يحاصرهم كابوس الخوف من مصير يتراوح بين السجن او القتل او الابعاد؟ ، كيف يتسنى -اصلاً- لهؤلاء الشباب ان يعبروا عن ابداعهم ما داموا يحظر عليهم وعلى غيرهم المشاركة في صناعة القرار الوطني لبلدانهم ؟.... اود هنا ان اقتبس ايضاً من كتاب شمعون بيرس "الشرق الاوسط الجديد" عندما يتحدث و(بصدق) عما تحرص عليه الانظمة الشمولية في العالم العربي ، يكتب بيرس "انها انظمة مكلفة وغير كفؤة ووجودها يتطلب قوة بوليس سري كبيرة جداً وجيشاً يلمع الاحذية"

**لا حول ولا قوة الا بالله

في اشد الكوابيس لا يتصور المرء -لأول وهلة- ان تعلن حكومات دول اسلامية تأييدها لـ "صمود" صربيا بقيادة ميلوسوفيتش في وجه امريكا ، الا ان هذا ما صدر عن ليبيا والعراق .. بعد التريث يمكننا فهم مغزى مثل هذا الموقف من النظام الليبي والعراقي ومعظم الانظمة الحاكمة في العالم العربي ، فالجرائم التي يرتكبها ميلوسوفيتش ضد المسلمين الالبان ليست مستهجنة من قبل مثل هذه الانظمة التي ولغت دوما في دماء المسلمين ، فكيف يقشعر بدن شخص مثل صدام حسين لجرائم الصرب وهو الذي امر بحرق مدينة "حلبجة" العراقية بالسلاح الكيماوي لمجرد تورط بعض سكانها من الاكراد في قلاقل ضد نظامه ، وكيف نرجو ان يستنكر شخص مثل حافظ الاسد ما يقوم به ميلوسوفيتش وهو الذي قتل عشرات الالاف من ابناء شعبه في ليلة واحدة بغرض ترسيخ دعائم نظام فئوي...
بعض المتحذلقين من الكتاب والمثقفين الذين يجيدون (الاسهال عن طريق الفم ) يقولون انه يتوجب دعم الصرب بسبب "وقوفهم دوما" الى جانب القضايا العربية!!! " مع ان ميلوسوفيتش وكما نقلت صحيفة "ديرشبيغل " الالمانية وصف العرب في احدى خطبه بأنهم "اقذار الارض" ... بالتأكيد ان وصفه هذا ينطبق على هذه الفئة من العرب التي تدعمه.

*** نتائج الانتخابات في الجامعات الفلسطينية وصوت الاغلبية المغيب !!

اسفرت نتائج الانتخابات لمجالس اتحاد الطلبة في الجامعات الفلسطينية عن تقدم قوائم الحركة الاسلامية على سائر القوائم الاخرى، واذا كان لهذه الظاهرة من دلالات فإنها تشير بشكل قاطع الى ان النخبة المثقفة في الاراضي الفلسطينية على الاقل تحجب الثقة عن اخيار اوسلو واصحابه ، وهذا يقودنا الى الاستفسار عن مدى موضوعية الربط بين نتائج هذه الانتخابات وبين نتائج استطلاعات الرأي العام التي تقوم بها بعض مراكز البحث والدراسات في الاراضي الفلسطينية ، وخصوصاً مركز البحوث والدراسات الفلسطينية بمدينة نابلس . وعند المقارنة في الحالتين فإنه لاول وهلة يصعب تفسير التفاوت الكبير في النتائج ، فإذا كانت الحركة الاسلامية قد حازت على ثقة ما يقارب 50% من مجموع طلاب الجامعات الفلسطينية فإن نتائج استطلاعات الرأي العام تظهر ان هذه الحركة لا تحظى بتأييد اكثر من 10% من الجمهور الفلسطيني. فأي النتائج تعكس نبض وتوجه الشارع الفلسطيني ؟؟
البروفيسور فؤاد عجمي استاذ للعلوم السياسية في جامعة "هارفارد" فلسطيني الاصل حضر الى الضفة الغربية وقطاع غزة قبل عام ليقوم بوضع تفسير موضوعي لهذا الفارق الكبير بين النتائج في الحالتين ، وقد توصل عجمي الى استنتاج مفاده ان نتائج انتخابات الجامعات الفلسطينية هي التي تعكس توجه الشارع الفلسطيني بصورة اكثر صدقية وموضوعية ، ويرى عجمي ان الاختلاف الكبير بين النتائج يرجع الى حقيقة كون المشاركين في استطلاعات الرأي العام عادة ما يخضعون عند الادلاء بآرائهم الى اعتبارات وحسابات مرتبطة بمصالحهم الشخصية ، كما ان هناك من المشاركين في استطلاعات الرأي العام من يجهلون الاهداف من وراء اجرائه ، ولذا فإن هناك ممن تستطلع اراؤهم من يعتقد انه اذا ما ادلى برأي معين سيناله مكسب مادي والعكس صحيح . لكن هذه الاعتبارات ليست موجودة لدى طلاب الجامعات الذين يتميزون بالتحرر من هذه القيود وعادة ما يلجأون الى التعبير عن آرائهم كما يؤمنون بها .

البروفيسور عجمي لا يمكن اتهامه بمحاباة الحركة الاسلامية وبالتالي فإن الذين يبنون تصوراتهم عن الرأي العام الفلسطيني اعتماداً على استطلاعات الرأي العام عليهم ان يعيدوا تقييم تصوراتهم . في حديث لي مع مدير احد المراكز الفلسطينية الهامة التي تعنى باجراء استطلاعات الرأي العام اكد لي شخصياً هذا المدير انه وعلى الرغم من اشرافه على العديد من استطلاعات الرأي العام فإنه لا يؤمن اطلاقاً بموضوعيتها ومطابقتها لنبض الشارع الفلسطيني .

من ناحية ثانية فإن نتائج انتخابات الجامعات تنسف الادعاءات القائلة ان اغلبية الشارع الفلسطيني تؤيد المضي في العملية التفاوضية وتدعم برامج السلطة الفلسطينية . احد ابرز كتاب الاعمدة في احدى الصحف العربية المشهود لها بالجدية يسخر كثيراً من نتائج استطلاعات الرأي العام التي تجريها مراكز الابحاث الفلسطينية ، ويقول "اذا كان اتفاق اوسلو يحظى بهذا التأييد على الرغم من نتائجه المأساوية على الشعب الفلسطيني ، فكيف لو كان هذا الاتفاق كباقي الاتفاقيات المتوازنة الدولية التي وضعت حداً لعدد من النزاعات الاقليمية!!" . الى ذلك فإنه يجدر الاشارة الى تقييمات الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية التي تقدمها الى لجنة الخارجية والامن التابعة للكنيست والتي تؤكد دوماً ان حماس تحظى على الاقل بتأييد 30% من الفلسطينيين ، مع العلم انه لا يمكن الادعاء ان الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية لها مصلحة في تضليل دائرة صنع القرار الاسرائيلي لانه بالاستناد الى تلك التقييمات تتخذ الحكومة الاسرائيلية مواقفها من الشأن الفلسطيني ... ما يؤلم النفس هنا انه كما هو الحال في معظم البلدان العربية فإن نتائج الانتخابات في الجامعات الفلسطينية تعكس فظاعة تغييب السلطات الحاكمة لصوت الاغلبية الحقيقي !!

*** لمن نشهر السلاح؟!

كشفت دراسة متخصصة ان الدول العربية تنفق كل عام ما يقارب 60 الف مليون دولار في العام على شراء الاسلحة ، حسب هذه الدراسة التي نشرتها مجلة "فورين ريبورت" البريطانية فإنه مقارنة مع دول العالم الاخرى فإن الاقطار العربية تخصص نسبة كبيرة من دخلها القومي لشراء الاسلحة ، فمثلا تخصص السعودية 53% من انتاجها القومي لشراء الاسلحة ، في حين تنفق سوريا 50% من انتاجها القومي على ذلك ، وكذلك تنفق الكويت نفس النسبة ، في حين ان اسرائيل التي تعتبر نفسها ندا يتفوق على جميع الدول العربية تنفق 12% من انتاجها القومي على شرائها ، بينما تنفق الولايات المتحدة "القطب الاوحد" في العالم 15% من مجمل انتاجها القومي على مشاريع التسلح، اما اليابان والمانيا فتنفقان 1% فقط من مجمل انتاجها القومي...

فما هو السر وراء ذلك يا ترى ؟... ما هو المبرر لدى السعودية ودول الخليج لانفاق هذه الاموال الضخمة على شراء الاسلحة ما دامت قد فوضت الولايات المتحدة للدفاع عنها؟ ومع علم الجميع ان هذه الدول لا يمكن ان تصمد في وجه اي تهديد خارجي مهما حازت على اسلحة، وكيف يتسنى فهم هذا التوجه المتواصل لدى سوريا لشراء الاسلحة ما دامت القيادة السورية قد اتخذت قرارا استراتيجيا باعتماد خيار المفاوضات لاسترداد الجولان، ولا احد يظن ان الاسد يخطط للرد على اهانات جنرالات تركيا له؟!..

مجلس اللوردات البريطاني يحقق حاليا في تورط سماسرة عرب وبريطانيين توسطوا بين كبار المسؤولين في الدول العربية وعدد من الشركات البريطانية التي تصنع الاسلحة ، مجلس اللوردات البريطاني كشف النقاب عن ان سماسرة عرب وبريطانيين يتوسطون بين كبار المسؤولين في الدول العربية وشركات صناعة الاسلحة حيث يعمل هؤلاء المسؤولون على ابرام صفقات الاسلحة مع هذه الشركات مقابل حصولهم على رشاوى تصل الى ملايين الدولارات ، بعض الخبراء الاستراتيجيين في العالم العربي اكدوا ان الكثير من هذه الصفقات لا تعمل على ايجاد تطور نوعي في ممتلكات الدول العربية من الاسلحة الامر الذي يعزز الشكوك حول دوافعها … اذن صفقات الاسلحة تعقد لمجرد ان تجد ملايين الدولارات طريقها الى جيوب بعض المتنفذين ليس الا ، مع العلم انه ليست الشركات الغربية وحدها التي تستفيد من هذه الصفقات ، بل ان صفقات الاسلحة مع الدول العربية مسؤولة عن تشغيل 200 الف عامل في مصانع الاسلحة الامريكية ، و 100 الف عامل في بريطانيا ، و85 الف عامل في فرنسا !!! ... ومن قال بعد ذلك ان العرب ليسوا كراما؟؟!!

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة