مسلمو كوسوفو بين مطرقة الصرب وسندان الحسابات السياسية

 

العودة إلى صفحة الرسالة

اعد التقرير / جواد ابو شمالة

ليس من الواضح بعد ما اذا كانت الهجمات التي يشنها حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة - لليوم السادس عشر على التوالي - على المجرمين الصرب ستؤدي الى وضع حد لمعاناة الالبان المسلمين في اقليم كوسوفو والذين يتعرضون لحملة من التطهير العرقي لم يشهد التاريخ الانساني مثيلاً لها حيث يقتلع شعب بأكمله من ارضه ويقتلع من جذوره وتمحى هويته وتدمر بيوته ويذبج اطفاله ونساءه .. كل ذلك يحدث في قلب اوروبا حيث - كما يتوهم الكثيرون- مهد الحضارة وكرامة الانسان .
ان احداً منا لن يذرف دمعة واحدة على ما يتعرض له المجرمون الصرب من قصف وحصار ، لكننا في نفس الوقت ينبغي علينا ان نكون حذرين في تحديد موقفنا من الاسلوب الذي تنتهجه الولايات المتحدة في العالم ويجب علينا الا ننخدع - بحكم تعاطفنا مع ما يجري للالبان المسلمين- ونضفي الشرعية على ما يمكن ان نصفه بالاهداف غير المعلنة للولايات المتحدة لنصحو في اليوم التالي على ضربات مماثلة تتعرض لها ايران او ليبيا او مصر وكما العراق من قبل ، عندها سينطبق علينا المثل القائل"اكلت يوم اكل الثور الابيض".

ان على العرب والمسلمين اليوم ان يدركوا انهم يعيشون تحت نظام الافلاس العالمي من القيم والذي يهدد البشرية اكثر من تكنولوجيا الدمار المعلق على رأسها ، تحت نظام يعتبر الاسلام والجنوب هما اللذين يهددان الحضارة الغربية !!

** جذور تاريخية للصراع

لم يكن الصراع الدائر بين الصرب والالبان المسلمين في كوسوفو وليد اللحظة او مجرد نزاع داخلي في يوغسلافيا ولكنه صراع ذو جذور تاريخية يعود الى المئات من السنين .

يعتبر الايريليون اول من سكن منطقة كوسوفو حيث اقاموا دولة (دارينا) ثم حكمها الرومان ومن بعدهم البيزنطيون الى ان دخلها الاسلام مع الاتراك العثمانيين الذين فتحوا البلقان في القرن الرابع عشر الميلادي ، واستمر الحكم الاسلامي في كوسوفو حتى العام 1912 وتنفي هذه الحقيقة مزاعم الصرب ، فهم نزحوا اليها من مناطق شرق جبال الاورال في موجات متتالية اتجهت الى جنوب اوروبا باسماء متعددة منها الصرب والبلغار والمقدون وغيرها ولم يتمكن الصرب من السيطرة على المنطقة الا في القرن الثاني عشر في عهد ملكهم (ستيفان) الذي تمكن من طرد البيزنطيين وبغلت قوة الصرب قمتها زمن الملك (دوشان) الذي اعلن نفسه قيصراً عام 1346م وجعل مدينة (بريزين) الواقعة غرب (بريشتينا) عاصمة كوسوفو الحالية عاصمة له ، ولكن القوة الصربية لم تدم طويلاً حين واجهتها القوة العثمانية المسلمة في منطقة البلقان في القرن الرابع عشر الميلادي وكانت كوسوفو المسرح الذي شهد نهاية الحكم الصربي على يد العثمانيين في معركة قادها السلطان مراد الاول ضد قائد الجيش الصربي (لازار) في عام 1389 م اذ قتل ملك الصرب واستشهد السلطان مراد الاول وكان النصر في النهاية حليف الجيوش الاسلامية ، وخلصت هذه المعركة الالبان من حكم الصرب فدخلوا الاسلام واصبحوا جنوداً للدولة العثمانية في المنطقة ولم ينس الصرب للالبان هذه المعركة واعتبروهم سبب هزيمتهم في البلقان ولهذا يعتبر الصرب يوم 28/6/1389 وهو تاريخ موقعة كوسوفو - مناسبة مهمة يحيونها كل سنة لتأجيج حقدهم ضد البان كوسوفو ، ولهذا كان الصرب عنصراً مهماً في تأجيج حرب البلقان عام 1912 /1913 حين ارادوا ان يثأروا من العثمانيين وحاولوا الحلول مكانهم عندما اضطر العثمانيون للانسحاب من اوروبا الشرقية بما في ذلك البانيا الحالية وقرر مؤتمر لندن عام 1913 تقسيم الاراضي ذات الغالبية المسلمة الى قسمين : الاول هو دولة البانيا الحالية والثاني هو اقليم كوسوفو الذي اهدى الى مملكة صربيا التي اتبعت كل الوسائل لتثبيت وجودها في الاقليم فوزعت الاراضي والممتلكات على الصرب وضيقت الخناق على المسلمين حتى اضطر الكثير منهم الى الهجرة الى البانيا وتركيا واستمرت معاناة كوسوفو خلال فترة الحكم الصربي الى اليوم ، فبعد استقلال يوغسلافيا في عهد تيتو وقعت بين المسلمين الكوسوفيين والصرب معركة شارك فيها حوالي (10) آلاف الباني مسلم ضد (40) الف صربي وذهب ضحيتها الكثير من المسلمين . وسيطر النظام الشيوعي سيطرة كاملة على كوسوفو منذ 1950 حصلت خلالها انتفاضات في اكثر من مناسبة الى ان صدر الدستور اليوغسلافي عام 1974 وضمن الحكم الذاتي لاقليم كوسوفو بطريقة تتيح له المشاركة في اجهزة الدولة والاحزاب اسوة ببقية الجمهوريات الست المكونة للاتحاد اليوغسلافي آنذاك . الا ان اكاديمية العلوم والفنون الصربية اصدرت في عام 1978 م وثيقة تتضمن خططاً لالغاء الحكم الذاتي عن كوسوفو وتبناها قادة الحزب الشيوعي ومنهم سلوفدان ميلو سيفيتش - الرئيس اليوغسلافي الحالي- واخذوا بتنفيذها بارسال آلاف الافراد من الشرطة الصربية الى الاقليم وسلموا الصرب وابناء الجبل الاسود الموجودين في المنطقة اسلحة لمقاومة السكان المسلمين ورد المسلمون بتظاهرات طالبت بالاستقلال عام 1981 واعتقل منهم العشرات وقتل حوالي عشرة اشخاص .

ومع بوادر تفتت الاتحاد اليوغسلافي عام 1988 حاول المسلمون ان يحققوا حكمهم الذاتي الذي كفله دستور 1974 الا ان صربيا تمسكت بالاقليم وفرضت وجودها بالقوة حين حذف الرئيس الصربي حق الحكم الذاتي من الدستور وفرض الطوارئ فانفجر الوضع وقتل العشرات وقبض على المئات من المسلمين عام 1989 م . وفي عام 1990 ارسلت صربيا قوات مسلحة الى داخل كوسوفو معززة بالطائرات والدبابات و (20) الف من افراد الشرطة . وتلى ذلك مظاهرات صاخبة في الاقليم بعد استفتاء شعبي مؤيد للاستقلال بأغلبية ساحقة وصدر في العام نفسه الدستور الجديد لجمهورية صربيا وبموجبه يخضع كوسوفو رسمياً لسلطات بلغراد .

في نفس الوقت اعلن البرلمان الالباني اعترافه بجمهورية كوسوفو المستقلة - الا ان الصرب ردوا على ذلك بالغاء حق التعليم بالالبانية في الاقليم واوقف الدعم عن الكتب المدرسية وجمدت رواتب المدرسين الالبان واغلقت حوالي الف مدرسة ابتدائية و (115) مدرسة ثانوية و (20) كلية جامعية وحُرم (430) الف الباني من التعليم و (118) الف مدرس من وظائفهم ولم يستسلم المسلمون الالبان فأبدعوا تعلمياً موازياً بعد ان قاطعوا التعليم الصربي و دّرسوا اما مجاناً او برسوم رمزية ممولة من قبل من غادروا الاقليم من الالبان وعددهم حوالي (300) الف شخص .

واستمر الامر الى ان انتخب الالبان الكاتب ابراهيم روغوفا رئيساً للجمهورية عام 1992 بعد اقامة انتخابات تحدياً للصرب . ومع بداية حرب الاستقلال في كرواتيا وسلوفانيا طبقت جمهورية الصرب حرب ابادة البوسنة والهرسك وحرب تهجير تدريجية على مسلمي كوسوفو عن طريق احلال الصرب محل المسلمين في الاقليم وطرد خلال فترة خمس سنوات حوالي ربع مليون من مسلمي كوسوفا خارج بلادهم .

وفي آب 1995 انسحبت الحكومة الصربية من كرايينا امام القوات الكرواتية فتدفق مئات الآلاف من صربيا الى كوسوفو في خطة صربية استيطانية لتعديل التوازن الديمغرافي .

ان الامر الواقع الآن ورغم كل مزاعم الصرب عن حقهم التاريخي في ارض كوسوفا ، فإن 90% من السكان الحاليين في الاقليم مسلمون والتاريخ المعاصر يؤكد ايضاً ان الصرب لم يسعوا اطلاقاً للتعايش مع المسلمين ، فقد اهانوا مقدساتهم ، واهدروا حقوقهم الثقافية والاقتصادية وحرموهم من المشاركة السياسية المتكافئة كمواطنين.

** يوغسلافيا وصراع الاعراق

بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وانفصال (14) جمهورية عن الاتحاد السوفييتي وانتعاش الحركات العنصرية والطائفية والقبلية والعرقية والثقافية ، كان من الطبيعي ان تتأثر يوغسلافيا بهذا التغيير خصوصاً بعد فشل صيغة المجلس الرئاسي السداسي الذي صممه تيتو لضمان وحدة يوغسلافيا بعد وفاته وهي الوحدة التي ولدت بعد الحرب العالمية الاولى يوم خرج الصرب كقوة مهيمنة على الاعراق والطوائف الاخرى ومع وصول ميلو سيفيتش الى السلطة بدأت وحدة يوغسلافيا في التفكك عبر صراعات محلية بدأت في البوسنة وانتهت في كرواتيا وكوسوفو ومن المؤكد ان هذه الصراعات ستستمر مادام الصرب يطبقون نظرية التطهير العرقي ضد الاعراق الاخرى حتى صرب الجبل الاسود لم يسلموا من مخططات ميلو سيفيتش حيث نشأ توتر بين صربيا والجبل الاسود على خلفية نجاح المؤيدين لاستقلال الجبل الاسود عن صربيا في الانتخابات التي جرت فيها عام 1997 وجاءت قضية كوسوفو لتزيد من التوتر الحاصل بين صربيا والجبل الاسود حيث حرص زعيم الجبل الاسود على اتخاذ موقف مغاير لموقف ميلو سيفيتش من قضية كوسوفو في مختلف مراحلها ووصل الامر ذروته مطلع العام 1999 بعد توقيع اتفاق رامبوييه بفرنسا والذي نص - فيما نص- على وجود قوات اطلسية في كوسوفو وهو ما دفع بلغراد بالتهديد بصد اي تدخل عسكري للناتو ، فسارع ناطق رسمي باسم الحكومة في الجبل الاسود بالتصريح (22/2/1999) ان الجبل الاسود لن يسمح للجيش الفيدرالي اليوغسلافي باستخدام اراضيها في حال اندلاع نزاع عسكري مع الاطلسي وردت بلغراد بقوة على هذا الامر بمواجهة اي قوة تدخل الارض اليوغسلافية بما فيها الجبل الاسود وهو ما دفع الناتو الآن لتطمين الجبل الاسود بأنه سيدافع عنها ضد اي هجوم صربي خصوصاً بعد المعلومات التي وصلت للناتو بأن ميلو سيفيتش يحضر لانقلاب عسكري في الجبل الاسود واستبدال الحكم هناك بحكومة مؤيدة لبلغراد .

** كوسوفو والافلاس في عالم القيم

ان ما يجري في كوسوفو الآن ليس نزع المسلمين من بلادهم وحسب ، بل اقتلاعهم من جذورهم ومحو هويتهم الثقافية والدينية حيث دمروا ممتلكاتهم تماماً واحرقوا بطاقاتهم الشخصية وعقود الزواج وشهادات الميلاد وكل الوثائق الخاصة بهم ، ولو تركنا الارقام تتحدث عن نفسها لعرفنا حجم المأساة التي يتعرض لها مسلمو كوسوفو ، فخلال الشهرين الاخيرين من الازمة قتل اكثر من 3000 مسلم الباني معظمهم من كبار السن والنساء والاطفال وفقد الآلاف ويرجح انهم قتلوا جميعاً ودمرت اكثر من 200 قرية تدميراً كاملاً ، اضافة الى تخريب اكثر من 45 الف منزل وتشريد اكثر من مليون نسمة يعيشون بالعراء في الدول المجاورة والآن يجري توزيعهم على الولايات المتحدة ودول اوروبا في حملة قيل انها مؤقتة وهو ما يمكن ان يصبح غداً دائماً ليقع المسلمون -كما هو حالهم منذ زمن بعيد- ضحية للحسابات والمصالح السياسية لهذا الطرف او ذاك لتتحول قضيتهم الى قضية لاجئين يجب وضع حل "انساني" لاغاثتهم وتنسى القضية الرئيسية "حق العودة وتقرير المصير" .

** عرب 48 .. البان 99 !!

ثمة تشابه كبير بين المأساة التي يتعرض لها شعب كوسوفو المسلم ومأساة الشعب الفلسطيني فغالبية الشعب الكوسوفي طرد من وطنه وشرد عنها تماماً كما طرد غالبية الشعب الفلسطيني من ارضه وكما تفرق الشعب الفلسطيني على عدة دول كلاجئين يحلمون بالعودة الى الوطن السليب ، يتم الآن توزيع شعب كوسوفو المشرد الى الولايات المتحدة ودول اوروبا وكما يستشرى الاستيطان في كل مكان بوطننا يتم الآن احلال صربي مكان كل مسلم يتم طرده من الوطن فيما يشبه الاستيطان اليهودي وكما تلقى اللاجئون الفلسطينيون الدعم والمناصرة من المؤسسات العالمية ليتمكن من البقاء لاجئاً الى حين غير معلوم ، تتسابق الآن المؤسسات الدولية على اغاثة مسلمي كوسوفو وكما انزرع القليل من ابناء الشعب الفلسطيني في موطنه الاصلي كأقلية بين الغالبية اليهودية عرف عنها مصطلح عرب الـ 48 ينتظر الآن ان نستقبل مصطلحاً جديداً يدخل قاموس الظلم الدولي وهو البان 99 !!

** اتفاق رامبوييه

يعتبر اتفاق رامبوييه نقطة التحول الرئيسية التي ادت الى اندلاع الحرب في يوغسلافيا ومن ثم اعلان الناتو عزمه شن حرباً على صربيا ، حيث توصلت مساعي لجنة الاتصال في اجتماعها في فرنسا الى اتفاق ينص على ايقاف الحرب ووضع قوة دولية للمراقبة في كوسوفو واعطاء الاقليم حرية كافية ليدير شؤونه ومن ثم اجراء استفتاء فيه بعد ثلاث سنوات يقرر فيها الاقليم مصيره ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو : لماذا اصر الرئيس الصربي ميلو سيفيتش على خيار الحرب ورفض خيار السلام ؟

لقد كان لميلو سيفيتش حسابات عديدة كان يعي من خلالها ان الناتو يشن حرباً عليه اضافة للعديد من الظروف التي جعلته يميل لخيار الحرب وهي :ـ

1ـ كان يعلم ميلو سيفيتش ان خروجه من كوسوفو -سلماً- سيلحق اذى كبيراً بسلطته وهو الذي بدأ نجمه يصعد منذ الغائه الحكم الذاتي عن كوسوفو 1989 فضلاً عما تمثله كوسوفو من جوهر الايدولوجيا والقومية الصربية التي يستند اليها ميلوسوفيتش في سلطته وشرعيته اما لو خرج من كوسوفو بعد حرب فسيبقى امامه الامل في استمرار حكمه في المستقبل.

2ـ الجيش الصربي معبأ ايديولوجيا بشكل يصعب مهمة ميلوسوفيتش في اقناعهم بالحل السلمي وعدم الدخول في حرب قد تكون مكلفة جدا، فلذلك اعلن التحدي وفي حال كانت خسائره امرا ملموسا يكون الباب مفتوحا امامه لاقناع الجيش بعدم جدوى الاستمرار وبالتالي في هذه الحالة قد يخسر الحرب ولكنه يبقى شيئا من الكبرياء.

3ـ كان يفترض ميلوسوفيتش ان روسيا لن تقف مكتوفة الايدي وهي ترى جارتها وحليفتها تتعرض لهجوم قد يهدد الامن القومي لها في المستقبل، ونفس الشيء ينطبق على الصين التي يمكن ان تخشى من التمدد الاطلسي الذي وصل الى مقربة من حدودها ولكنها غير مهددة بشكل مباشر على اعتبار ان الحرب في اطار الاطلسي وليس في اطار الامم المتحدة وبالتالي فلا سلطة لبكين في هذه الحرب كما كان يعتقد ملوسوفيتش خطأ.

4ـ توقع ميلوسوفيتش ان الاطلسي سيتصرف في كوسوفو مثلما تصرف في البوسنة قبل اربع سنوات حيث ظل الحلف يهدد دون فعل وكان يعتبر ان عدم التدخل وارد اكثر -حسب اعتقاده الخاطيء- لان كوسوفو جزء لا يتجزأ من يوغوسلافيا ولكن ميلوسوفيتش نسي ان الموازين اختلفت عما كان عليه الامر قبل اربع سنوات ، فالاطلسي الان وصل الى البلقان ووصل الى دول الاتحاد السوفييتي السابق واصبحت موسكو بحاجة للشراكة مع الاطلسي اكثر مما يحتاج هو اليها.

5ـ اعتقد ان بامكانه احداث خلل وقلاقل في المنطقة باكملها اي في الدول المجاورة له فمثلا دولة مثل مقدونيا التي يسكنها 32-35% البان فاذا ما لجأ البان من كوسوفو فسيحدث خلل ديمغرافي كبير فيها بين السلاف والالبان فيسود التوتر في المنطقة.

6ـ وصل ميلوسوفيتش الى نتيجة -خاطئة- مفادها ان شن حرب عليه سيعرض اتفاق دايتون في البوسنة للخطر حيث ان قوات السلام المتمركزة هناك غير مجهزة للحرب وهو ما يمكن ان يكون رادعا لشن حرب اطلسية ضده خشية تعرض قواتها للضرب من الصرب. ولكن هذا الامر لو حدث لن يكون مفيدا بشكل كبير للرئيس الصربي لان ذلك سيزيد من عزلة النظام الصربي في المجتمع الدولي.

**الاهداف الحقيقية للولايات المتحدة

منذ ان قرر حلف الناتو شن حرب على يوغوسلافيا حدد الحلف اهدافه من هذه الحرب وهي وضع حد لحملة التطهير العرقي التي تجري بحق شعب كوسوفو واليوم وبعد مرور ستة عشر يوما على الهجمات التي تشنها على يوغوسلافيا ما زال الشعب الكوسوفي يعيش مأساة حقيقية لم يشهد التاريخ الانساني لها مثيلا. بل وازدادت المأساة مع بداية الحرب، وهو ما اثار الشكوك في مدى صدقية الاهداف التي حددها "الناتو" بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، والان نحاول ان نضع اصابعنا على الاهداف البعيدة المحتملة للولايات المتحدة من شن هذه الحرب:ـ

اولا: واشنطن ترغب في تصحيح المعادلة البلقانية الان في افق استراتيجي يتجاوز الهم الالباني في كوسوفو لان امريكا تدرك ان روسيا مهما طال امد انهيارها فسيأتي اليوم الذي يأتي فيه رجل ينقذ موسكو "الرجل المريض" مع احتمالات يقظة العملاق الصيني الذي سيكون قادرا ليس على املاء ارادته في الباسيفيك ووسط اسيا وحسب بل وفي الشرق الاوسط ايضا.

ثانيا: تريد واشنطن تثبيت سيطرتها على النظام العالمي الجديد، وتوسيع حلف الاطلسي شرقا بقيادة امريكا نحو الحدود الروسية عبر اقامة قواعد للناتو في كوسوفو باتجاه احتواء روسيا وتهديدها.

ثالثا: يوغوسلافيا هي اخر دولة اوروبية من المعسكر الشرقي في فترة الحرب الباردة والتي بقيت في فلك روسيا ولم تلتحق كباقي دول اوروبا الشرقية بالمعسكر الغربي وان سلوك الرئيس الصربي يعيد اوروبا الى زمن الحرب العالمية الاولى وهو ما لا يتناسب مع تطلعات اوروبا والولايات المتحدة للقارة في القرن المقبل مما يتوجب ازالة النظام الذي يهدد وحدة الاتحاد الاوروبي واستقراره لذلك جاء رفض الناتو لعرض ميلوسوفيتش المشروط لوقف الاعمال العسكرية دليل على ذلك ، وقبل يومين عندما اعلن عن وقف اطلاق النار من جانب واحد حيث رفضت قيادات الناتو واهمها (امريكا - بريطانيا- فرنسا) هذا العرض.

رابعا: واشنطن ترغب في تكريس الدور العسكري للناتو الذي مر على اقامته 50 عاما والذي بدأ يتلاشى دوره بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والخطر الشيوعي حيث لم يقم الناتو منذ نشأته بأي عمل عسكري وتحول الى مجرد حلف سياسي يقوده جنرالات من الدول المشاركة فيه. اما الان فقد اكدت امريكا دورها العسكري في اوروبا خصوصا وانها المشارك الاكبر من حيث عدد الطائرات والسفن وهو ما يعني ان هذا الهجوم سيحول امريكا الى شرطي دولي يتدخل في نزاعات يعجز مجلس الامن عن البت فيها لصالح السياسة الامريكية وبالتالي تعطيل فعالية الفيتوهات الفرنسية والروسية والصينية في القضايا الدولية.

خامسا: ان اجراء عمليات عسكرية من هذا النوع سيكون ضروريا لاطفاء جذوة نيران الحرب الباردة بين المعسكرين خشية ان تتفاعل التراكمات الاقتصادية السيئة في روسيا وتدفع بها الى العمل على استعادة الماضي بعمل التفافي ابدت جمهورية روسيا البيضاء رغبتها في ان تكون نقطة الانطلاق فيه من خلال استعدادها لنصب منصات صواريخ نووية روسية اذا ما ارادت ذلك.

**هل سيتحرك الدب الروسي

تربط روسيا بالشعب اليوغوسلافي علاقات وطيدة وتاريخية ترجع الى البعد الديني والعرقي بين السلاف الارثوذوكسي في البلقان وروسيا عموما، وهو ما يفسر التعاطف الشعبي والرسمي الروسي مع الصرب ولكن ليس البعد الديني والعرقي وحدهما السبب في ذلك ، فالبعد الاستراتيجي والجغرافي الذي تشكله يوغوسلافيا بالنسبة لروسيا يشغل صناع القرار في روسيا لان الولايات المتحدة لو نجحت بتوسيع حلف الناتو بوضع قواعد له في كوسوفو سيؤدي ذلك الى تهديد الامن القومي الروسي الذي سيعيش تحت مطرقة الناتو في كل وقت ، وعندما قام الحلف بتوسيع حدوده بعد ضمه الدول الثلاث هنغاريا وبولونيا وجمهورية التشيك ، لم تستطع روسيا فعل شيء بسبب حاجتها للمساعدات الاقتصادية الغربية ، لذلك فإن روسيا الان تلعب بالورقة البلقانية اذ تشكل يوغوسلافيا جيبا شديد الحساسية والتعقيد في اوروبا الوسطى والجنوبية ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الان هو الى اي حد يمكن ان يتطور الموقف الروسي في البلقان وهل يمكن ان يتحرك عسكريا؟؟
لقد صرح بوريس يلتسين منذ بداية الازمة ولا زال بأن روسيا لن تتورط في صراع عسكري لان الروس مشغولون بدرجة اكبر بالاقتصاد ، هذا التصريح يجيب باختصار عن الوضع الذي تحياه روسيا، فليس هناك من يتصور ان روسيا في ظروفها الحالية التي تعاني فيها من ازمة اقتصادية شديدة وانهيارات اجتماعية مستمرة ، يمكن ان تضع خطتها الاستراتيجية على اساس الدخول في اي عمل مسلح ، خاصة بعدما اعلن "ليونتي كوزنيتسف" قائد منطقة موسكو العسكرية ان الجيش الروسي لم يعد قادرا على مسايرة قوات "الناتو" في حال نشوب مواجهة بين الجانبين ، لذلك اقتصرت الاجراءات التي اتخذتها روسيا على قرارات اقرب الى الاحتجاج منها الى العملية مثل استدعاء روسيا لكبير مسؤوليها العسكريين لدى الناتو ، وايقاف كل الانشطة والاتصالات بين روسيا والناتو وايقاف عضوية روسيا في "برنامج المشاركة من اجل السلام" والاعلان ان اتفاق (ستارت 2) الذي يتعلق بالحد من التسلح لن يتم التصديق عليه.

اما فيما يتعلق بارسال روسيا بعض القطع البحرية الى البحر الادرياتيكي ما هي الا محاولة من جانب يلتسين للتنفيس عن الهياج الشعبي الذي اجتاح روسيا كما انها لفتة ادبية للصرب بأن روسيا تقف معهم وتدعمهم. من دون شك فإن روسيا الان تبني استراتيجيتها على التحرك الدبلوماسي لمنع تصعيد الموقف في البلقان والتحكم فيه والسيطرة عليه الى حين التوصل الى حل وتسوية مناسبة في البلقان.

**ردود فعل

تفاوتت ردود الفعل بالنسبة للموقف من الهجمات التي تشنها الولايات المتحدة على الصرب او الموقف من مسألة استقلال كوسوفو ، فعلى الصعيد الدولي فإن فرنسا وايطاليا والمانيا ترفض الاستقلال الكامل لكوسوفو او اي تغيير في خارطة البلقان ولكنها لاترى بأسا في التباحث حول اعادة الحكم الذاتي للاقليم والذي كان مكفولا في دستور 1974 اليوغوسلافي ، والغى عام 1989 ، اما الولايات المتحدة وبريطانيا فتعتبران ان الوقت لم يحن بعد لاستقلال كوسوفو وحسب موقفها واهدافها المعلنة فإن الهدف من محاربة الصرب هو وقف الاعتداءات ضد الالبان الكوسوفيين.

اما بالنسبة لمواقف الدول العربية والاسلامية فكان ابرزها الموقف الايراني والعراقي، وليبيا والتي ارتكزت ردود فعلها على اساس فهمها للاهداف البعيدة التي تنشدها الولايات المتحدة ، لذلك كان الموقف الايراني حذرا ومتوازنا حيث اعربت عن تعاطفها مع المسلمين في كوسوفو ولكنها في نفس الوقت شككت بالاسلوب الذي تتبعه امريكا كشرطي في هذا العالم بعيدا عن الشرعية الدولية ، اما ليبيا فقد ادانت العمليات الامريكية ضد يوغوسلافيا ووصل الامر بالعراق الى تأييد الصرب وتزويدهم بمعلومات عن القطع الحربية الامريكية التي تستخدمها الولايات المتحدة بحكم تجربتها الطويلة في حرب الخليج.

اما باقي الدول العربية فليس لها اي موقف واضح هذا على الصعيد الرسمي ولكن شعبيا فإن تعاطفا كبيرا يسود الشارع العربي والاسلامي مع الالبان المسلمين في كوسوفو ودأبت الجمعيات الخيرية على جمع التبرعات وتوزيع المساعدات على لاجئي كوسوفو.

**ماذا لو انتصر الناتو؟

اذا كانت الاهداف المعلنة التي حددها الناتو واهمها وقف معاناة اهالي كوسوفو حقيقية فإن ذلك يمكن ان يتحقق دون هجوم بري على الاراضي اليوغوسلافية وهو ما لا يبدو في الافق حتى الان بسبب المصاعب المحتملة التي من الممكن ان تواجه قوات الناتو على الارض وتوقع خسائر كبيرة في صفوفهم قد تذكرهم بحرب فيتنام حيث ان طبيعة الارض في كوسوفا تساعد ميلوسوفيتش وهي ارض جبلية مشجرة وهو ما يمنح غطاء طبيعيا للاهداف العسكرية الصربية.

وفي النهاية ايا كان الامر فإن انتصار قوات الناتو هو امر متوقع بسبب الفارق الكبير في الامكانيات العسكرية بين الجانبين والسؤال هو ما هي النتائج المحتملة لهذا الانتصار؟

بالنسبة للنتائج على صعيد كوسوفو فإنه ليس من المتوقع ان تجازف الولايات المتحدة باعلان استقلال كامل لدولة اسلامية في قلب اوروبا وهو ما ترفضه امريكا نفسها والدول الاوروبية كذلك وكل ما يمكن ان يحدث هو استبدال سيطرة الصرب على كوسوفو بالسيطرة الغربية. هذه النتيجة تعني تلقائيا توسيع حلف الناتو شرقا مما يهدد الامن القومي الروسي والصيني كما سيؤدي هذا الانتصار الى وضع استراتيجية امريكية جديدة تعدها واشنطن للقرن المقبل خصوصا فيما يتعلق بمصالحها في الشرق الاوسط ، هذه الاستراتيجية التي ستهدد حتما الدول العربية والاسلامية مثل ايران والعراق وسوريا ومصر على نحو خاص.

 

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة