في الذكرى السنوية العاشرة لانتصار ثورة الانقاذ

 

العودة إلى صفحة الرسالة

التجربة السودانية نحو الاستقرار الداخلي والانفتاح على العالم الخارجي

جواد ابو شمالة

صادفت  الخميس الماضي  الذكرى  السنوية  العاشرة  لنجاح  ثورة  الانقاذ الاسلامي  في  تولي  الحكم  في السودان  عام  1989 بقيادة  الفريق  عمر حسن  البشير  بدعم  من المفكر الاسلامي  المعروف  حسن الترابي  زعيم  الجبهة  القومية الاسلامية في ذلك الوقت  والتي  تحولت الان  الى حزب المؤتمر  الوطني  ، ومنذ  ذلك الحين  والسودان  يخضع  لنظام حكم  جديد يختلف  في بنائه  ونوعية نخبته  وتوجهاته  الفكرية  والسياسية  عن النظم  المدنية  والعسكرية  التي تداولت  السلطة  في السودان منذ  استقلاله  عام 1953م .

وقد  واجهت  الحكومة  السودانية  > الانقاذية<  خلال  هذا العقد  العديد من  التحديات الداخلية  والخارجية ، فعلى الصعيد  الداخلي  ورثت  الحكومة  الوليدة اقتصادا منهارا  وخلافات  سياسية  مع احزاب المعارضة   في الشمال  ، والحرب  مع المتمردين  بقيادة  جون قرنق  في الجنوب   اما على الصعيد الخارجي  فقد  واجه السودان   سلوكا عدائيا  من الدول  الافريقية  المحاذية   خاصة  من اثيوبيا  وارتيريا  واوغندا  والتي كان اسقاط   نظام الحكم  في السودان  خيارا  استراتيجيا  لها  بتشجيع من  الولايات المتحدة  الامريكية   والتي  فرضت   حصارا اقتصاديا   على السودان  وضربت مرافقه  الاقتصادية  دون  اي  مبرر  ، كما  شكل التوتر  في العلاقة  مع مصر تحديا  خارجيا  هاما  للسودان   وذلك بسبب  العمق  الاستراتيجي  الذي يشكله  كل بلد  للاخر  .

وفي مواجهة  هذه التحديات   استخدمت  الحكومة  السودانية  اسلوب  التدرج  والحكمة والتوازن  في حل  الاشكالات  التي  تعصف   بالدولة الوليدة  ولكنها  في نفس الوقت  واجهت  التمرد  الجنوبي  بحزم  ودون  تردد  لما  يشكله  هذا التمرد   من خطر  على وحدة  وسيادة  السودان   وقد شهد  العام  الاخير  تطورات  هامة  سواء   في الشأن الداخلي  السوداني  او العلاقات   الخارجية  مع الدول  المجاورة  وهي تطورات  ساهمت  بشكل كبير   بتدعيم  الشرعية  للحكومة السودانية وهي تدخل  عقدها  الثاني  واستعداد  الدخول  للقرن  الحادي  والعشرين  .

واذا اردنا   تقييم  التجربة  السودانية  الفريدة  من نوعها  - بسبب  تبنيها  الخيار  الاسلامي  لنظام الحكم -  علينا  ان نتناول  بالتحليل  التطورات  الاخيرة  التي جرت  على  نظام الحكم   في الداخل  واهمها  قانون  التوالي  والمصالحة  السياسية  مع القادة  التاريخيين  للسودان  والثورة الاقتصادية   العتيدة  ،  كما سنتعرض  للعلاقات  الخارجية  للسودان  وتطوراتها  خاصة  مع مصر  وارتيريا  .

ويعتبر قانون  التوالي  - الذي  بدأ العمل  به  مع بداية  العام الحالي -  نقطة  التحول  الرئىسية  في مجمل  التطورات  على الساحة  السودانية  منذ بداية   الحكم  الانقاذي  الذي  بدأ  الحكم  على اساس  من الشرعية  الدينية  واعادة  الدين  الى الحياة  ومن ثم  الشرعية  الثورية  لتخليص  الناس  من التفكك  والطائفية  والانقسام  الذي  اوجدته  الاحزاب  السياسية  ، والان  وبعد  ان عاد  النظام  والهدوء  الى البلاد  قررت الحكومة السودانية   استكمال  استنادها  الى الشرعية  الكاملة   بصياغة  دستور  جديد  اقره البرلمان   العام الماضي  وكان قانون  التوالي  هو القانون  الذي  استحوذ  على اهتمام  المراقبين   والاحزاب  السياسية  السودانية   في الداخل  والخارج  لما تمثله  هذه الخطوة  من تطور  كبير  في ادارة  الحكومة  للعبة السياسة  في السودان  ويفتح  هذا  القانون الباب  واسعا  امام الديمقراطية  وتشكيل الاحزاب  السياسية  وتوسيع هامش  المشاركة  في الحياة السياسية  وقد لاقى  هذا القانون قبولا  كبيرا في الشارع السوداني   واحزابه   السياسية  حيث  تسجل حتى الان  23 حزبا  سياسيا  منها  ما هو قديم  ومنها  ما هو  حديث الانشاء  .

وتكمن الاهمية الكبيرة لقانون التوالي  بانه  يشكل  مخرجا  للازمة  السياسية  المحلية  والاقليمية  والدولية  التي  عانت منها الخرطوم  طوال  العقد  الماضي  ، واداة  لتسوية  مشكلة  الجنوب  واجراء المصالحة  التاريخية  في السودان  خاصة  ان القانو ن قد سمح بعودة رموز  المعارضة  السودانية   وضمن لهم  الامن وعدم  المساءلة  حول  افعالهم  اثناء  توليهم  المسئولية  في السودان  ، كما ضمن قانون  التوالي  التعددية  السياسية  وممارسة  النشاط السياسي  بحرية  ودون  قيود وحرية   الصحافة  والانفتاح  السياسي  .

فقد اثبتت التجربة السودانية  ان المشاركة  الشعبية  واحترام  حقوق  الانسان والاستقرار  السياسي  وتوسيع  الحريات العامة  هي شروط ضرورية  لنجاح  واستمرار  شرعية  اي نظام  سياسي  مهما  كانت  قدسية  المباديء التي يرفعها  كون  النظام السوداني  يقدم  مشروعا  حضاريا  ويتصف  بالاصالة  والاستقلال  الحقيقي  عن  قوى  الاستكبار  العالمية .

واستمرارا  في سياسة  تحقيق  استراتيجية  الشرعية  التي بدأتها  الحكومة  بسن  الدستور  الجديد وقانون التوالي  ومعالجة  ملف الجنوب  بالاستفتاء  واصلت  الحكومة  استيعاب  المعارضة   الشمالية ورموزها  في الخارج ، وفي هذا  السياق  اقدمت  الحكومة السودانية  على الترحيب  بعودة الرئيس السابق  جعفر النميري  الى السودان   والسماح  بمظاهر استقبال  رسمية  وشعبية  في  خطوة تعكس  مدى انفتاح  الحكومة  داخليا   واستعدادها   لاستقبال  كافة  القيادات  والقوى  السياسية  التي تريد  المساهمة  في  بناء السودان  وتعزيز  جبهته  الداخلية  في  مواجهة  التحديات  الخارجية  وتفعيل  قدراته  من اجل  استثمار الطاقات  الشعبية  ، وتؤكد  هذه الخطوة  مدى ثقة الحكومة  السودانية بنفسها  وقوة النظام  وتماسك  الجبهة  الداخلية  كما  انها خطوة  ادبية تؤكد  احترام  الحكومة لجميع  القيادات  التي لعبت دورا  في تاريخ السودان  الحديث ،  وتعكس  عودة  النميري  رسالة  مزدوجة  من الحكومة  ليس  فقط  للمعارضة  وتشجيعها  على الحوار  ، بل  للدول  العربية  خاصة  ان النميري  يتمتع  باحترام  وثقة  عدد كبير  من القيادة  العربية  والدولية  ،  وفي نفس  الاطار  اجتمع  الترابي  مع  الصادق  المهدي  زعيم  حزب  الامة  واتفقا  على تحقيق  المصالحة  وحل الاشكالات  بالحوار لا بالعنف  واكد  الطرفان  على المصلحة  العليا  للسودان  والعمل  سويا في مواجهة  من يريد تدميره  ، واكد المهدي  انه ليس  من اهدافه  اسقاط النظام السياسي في السودان .

وعلى صعيد  الحرب في الجنوب  حقق الجيش السوداني  نجاحات كبيرة في مواجهة   المتمردين و التي كان  اشهرها حرب النفرة  الكبرى  التي قادتها  الحكومة السودانية   للقضاء على  قوى المعارضة  الجنوبية  وقواها العسكرية   وهو ما زاد   في الانقسام  الذي  تعاني  منه الاحزاب  الجنوبية  المتمردة  خصوصا  بعد طرح  الحكومة  لاقتراح  الاستفتاء   الشعبي  حول  انفصال الجنوب  .

 وعلى الصعيد  الاقتصادي  ساهم  تفجر ينابيع  النفط  في السودان  مؤخرا  ونجاح  الحكومة  في فتح  باب  الاستثمار  النفطي  في توفير  مصادر  دخل   جديدة  للحكومة   وفتح   باب  الاستثمار  للدول  الاجنبية  في السودان  والتعاون  الاقتصادي  معه  وهو ما دفع السودان  الى اظهار  استراتيجية  جديدة  لبناء  الدولة  تكفل   للسودان  تحرير ارادته  وحل مشاكله   الاقتصادية  بعيدا   عن الضغوط  الخارجية  وتدعيم  الجيش  السوداني  ببناء مصانع  تسليح له  والعمل  على  تصنيع  الدبابات  والصواريخ  عن طريق  الاموال  التي يتم  استثمارها  من عوائد  النفط  كما اكد  بذلك  المسؤولون  السودانيون .   

وعلى صعيد العلاقات الخارجية حققت الدبلوماسية  نجاحات كبيرة   جدا تمثلت  بتحسين  العلاقات  مع العديد من  الدول  العربية  والافريقية  والتي  كان  التوتر  معها  يشكل  دوما مصدر  قلق  امني سياسي  للسودان  فضلا  عن الاستنزاف  الاقتصادي  وسنركز  في هذا  الجانب  على مصر  وارتيريا  بسبب  اهميتهما  الخاصة  كجارتين للسودان  .

تمثل العلاقات  المصرية  السودانية  اهمية  خاصة  بالنسبة  لمصر  والسودان  بحكم  الروابط  الطبيعية  والانسانية  والثقافية  والاقتصادية  التي ربطت  البلدين  على مدى التاريخ  اضافة  الى الجانب  الاستراتيجي  الذي  يجعل كلا  منهما يمثل  عمقا  استراتيجيا  بالنسبة  للاخر  فقد  تولدت   مجموعة  من المصالح  الحيوية  المتشابكة  بين  البلدين  الامر الذي  يتطلب  ضرورة  ادارة  العلاقات  استنادا  الى مجموعة  من القواعد  الموضوعية  التي يؤدي  تطبيقها  الى تحقيق  المصالح  الحيوية  المشتركة  في جوانبها  السياسية  والعسكرية  والاقتصادية   وفي الاونة  الاخيرة  اكد  المسؤولون  المصريون  والسودانيون  على مستوى  الرؤساء  ووزراء الخارجية  على  تحسن  العلاقات  بين البلدين  ولا  يقل  اهتمام  مصر   بتقوية  العلاقات  عن السودان  ،  فمصر ضد  حصول  الجنوبيين  على دولة  مستقلة  عن السودان  لانها  لا تريد لهم التحكم  بمصادر  المياه  التي تمثل  الشريان  الرئىسي  لمصر  ، كما  انها   لا تريد  لدول  مثل  ارتيريا  واثيوبيا  ان  تقويا  على حساب  السودان  وذلك  بسبب  العلاقات  المشبوهة  لهاتين  الدولتين مع اسرائىل  والولايات  المتحدة  التي تبحث عن مصالحها في القرن  الافريقي  عبرهما  وجاءت  الحرب  الاخيرة  بين ارتيريا  واثيوبيا  لافشال  الاستراتيجية  الامريكية  في المنطقة  بالسيطرة  على القرن الافريقي  ومحاصرة  السودان   وهو   ما يقودنا   الى اهمية   اتفاق  السلام  الذي  وقع  بين السودان  وارتيريا والذي  ما كان  له  ان يحدث  لولا  الحرب  التي  اشتعلت  بين  ارتيريا  واثيوبيا  وهو  ما  خفف الضغوط  الاقليمية  الواقعة  عليه  حيث  ادى ذلك الى  تشتيت  عدوين  لدودين  للسودان  فضلا عن انهيار  الحزام  الامني  المحيط  بالسودان متمثلا  بالصراعات  الداخلية التي احتاجت  الكونغو  وانتهت  بسقوط  حكومتها  وتدخل اوغندا  فيها  وهو الامر الذي  جفف  منابع  الدعم العسكري  للمعارضة السودانية  في الجنوب وهو انجاز  عسكري  سياسي في وقت واحد  .

وفي نهاية  هذا التقييم يمكننا  القول  ان حكومة  الانقاذ  السودانية  دخلت  عقدها  الثاني  من الحكم  وقد حققت انجازات  هامة  للسودان  عجزت  عن تحقيقها  كافة  الحكومات العسكرية  والمدنية   التي حكمت  السودان  منذ  استقلاله  واهم هذه  الانجازات  الحفاظ على  وحدة   السودان  عن طريق  الهزائم  المتتالية التي  كالها الجيش السوداني  للمعارضة  الجنوبية  الانفصالية ،  وتحسن  الوضع  الاقتصادي  في السودان  خاصة   بعد تفجر النفط  والانفتاح  على الاسواق العالمية  وذلك على  الرغم من الحصار  الذي تفرضه  الولايات المتحدة  على السودان  ،  لتقويض  نظام  الحكم  الاسلامي  فيه ،  وكان  للحوار  الشامل  الذي  اجرته  الحكومة  مع المعارضة  في داخل   وخارج  السودان  اهمية  بالغة  في تدعيم الجبهة  الداخلية  والتأكيد  على استراتيجية الشرعية   للحكم  في السودان  خاصة  بعد  عودة العديد  من القيادات  التاريخية   السودانية  والانفتاح  الديمقراطي  الداخلي  وتتواصل  جهود الحكومة السودانية  في تدعيم  العلاقات   مع مصر  وكافة  الدول العربية  وتحييد  دول  الجوار الافريقي  وعدم  التدخل  في الشئون  الداخلية للسودان   وهذه الدول  عبر عقد الاتفاقات   معها  ، كما نجحت  الدبلوماسية  السودانية  في اثبات  الظلم  الذي وقع على السودان  بعد ضرب  مصنع  الشفاء  بفعل الطائرات الامريكية   وقد اعترفت واشنطن  بشكل غير  مباشر بذلك   حيث افرجت  عن الاموال  التابعة  لصاحب  المصنع والتي تقدر  بالملايين  وهي خطوات  تدخل  بالسودان  الى القرن  الحادي والعشرين  يختلف  عما كان  عليه الامر  قبل ذلك  .

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة