من شوارع الوطن

بقلم : صلاح البردويل

العودة إلى صفحة الرسالة

 

برّد .. وصوت الرصاص ..

على شاطئ البحر .. علي لا يشم الهواء .. كان بين زخات الشتائم يتنقل كالسلطعون .. ينادي .. برّد .. برّد ..يتجاهل النظرات .. يحتضن صندوقه الذي يحوي رأس ماله ومال أمه

ومال اخوته الصغار ...قلبه المجروح لا ينزف دما ..ولكنه ينزف ارادة وعزما على اختراق الحزن وابتلاع الألم !! وعندما عاد الى البيت منهوكا تحولق الصغار ينظرون الى اثار الشمس على وجهه .. قالوا: بكم بعت اليوم يا علي؟ .. ظل صامتا يمضغ لقمته وهو يتفرج على التلفزيون .. ابيض واسود .. اخبار اسرائيل .. الشرطة الفلسطينية تقمع المتظاهرات في نابلس .. نساء المعتقلين .. اطفالهم .. عصيّ وجنود .. كاميرات تصوّر .. لافتات وصراخ ودعاء!!

وعلى الفور تتساقط دموعه ودموع امه .. ويثور في نفسه غضب مخنوق .. وينظر في عيون امه.. وتبادله النظرات ولا يملك الا ان يبتلع اللقمة كيفما كانت.

ويتناول من جيبه الشيكلات ويلقيها في يد امه التي تحتضنه وهي تقلبها في يدها .. يامّا انا لا اريد الا سلامتك وسلامة اخوتك .. انا يامّا قادرة على الصرف عليكم .. مستورة والحمد لله .. لا اريدك ان ترهق نفسك هكذا يا علي .. اذا كان والدك مسجونا فأنا هنا مكانه الى ان يخرج اليكم بالسلامة .. يا امي والدنا وصّانا عليك يوم الزيارة .. وانا هنا مكانه وعليك انت ان تستريحي .. انا مبسوط .. وسيخرج ابي!! ماذا فعل حتى يبقى في سجون السلطة ؟! حمل البندقية في وجه اليهود وله الشرف ولنا من بعده كل الشرف فالكل يعرف ماذا يعني السجن في سبيل الله والوطن!!

وبينما هم يتابعون نشرة الاخبار.. انطلقت اصوات البنادق الرشاشة .. وزغرد الرصاص يغازل نجوم السماء ويمزق سكون الليل وظلام المخيم.. قال قائل منهم : اشتباك !! هبّوا جميعا .. صرخت الام : أي اشتباك؟ ومع من؟ اهبطوا يا اولاد .. اكملوا عشاءكم .. هذا عرس الجيران .. ثم خفضت صوتها حتى لا تكاد الكلمات تفارق حلقها قائلة .. انه ضابط يعمل في الامن!! من اجل ذلك مسموح له ان يطلق الرصاص في الهواء.

قال قائل منهم : واين الشرطة؟ قالت : الدنيا كلها بتروح خواطر ياعيني!!

وبالقرب من منصة الفرح كانت كشافات المستوطنة تراقب الشباب وهم يضغطون على الزناد.. وتراقب فوهات البنادق المشرعة بعيدا.. قالت: يا اولادي : انتهى عهد الاشتباكات ، قال عليّ: لماذا ؟ سيبقى الاشتباك الى الابد !! قالت : نعم ولكن سنشتبك مع القهر والفقر والهمّ!!!

قلت : ربما لا يستطيع الولد ان يطوّر الحوار مع امه فلماذا لا يتدخل الراوي ويسقط غله على السطور وليقل النقاد ما يقولون!!

كنت وقتها اقلب كتابا في التاريخ المعاصر .. وكان الليل من حولي يغطي كل شيء وكنت ارفع بصري من سطور الكتاب المتوهجة ليخطف بصري وهج اضواء المستوطنة التي تعربد في شوارعنا مما يجبرني على اعادة النظر في كتاب التاريخ .. ثم اغلقته وقلت لنفسي : آن لك ولأمثالك تكتبوا التاريخ القادم لعليّ وامثال عليّ.

ثم سمعت صراخا: وتوقفت سماعات الفرح عن الغناء الراقص .. القيت كتابي وخرجت مسرعا!! لقد كان عليّ غارقا بدماء يده التي لوّنت البرّد الاصفر باللون الاحمر.. وسال كل شيء على التراب .. على تراب الوطن.. وما تزال كشافات المستوطنة تراقب المنصة ، قلت : سبحان الله ! من اين جاءت الدماء؟! لقد كان كل ما سمعناه طقعا في الهواء!!.

آخر تعديل بتاريخ 28/03/00

العودة إلى صفحة الرسالة